محاكمات | المقدمة الاولى | 3
(1-90)

فلو قال القرآن هذا، أما كان الدليل اخفى وأغمض من المدّعى واحوج الى التوضيح؟ أما كان ذلك تنويراً للحقيقة بشئ مظلم بالنسبة لهم! أو تكليفهم بأمر غير معقول هو مغالطة انفسهم تجاه بداهة حسّهم!
ان اعجاز القرآن اجلّ واطهر من ان يقع على ذيله الصافي اللامع غبار إخلال الافهام. ولقد لوّح القرآن الكريم الى المقصد الحقيقي في معاطف الآيات البينات وتلافيفها، كما جعل قسماً من ظواهر الآيات مناراً ومرشداً الى المقصد، كالكناية عليه.
ومن الأصول المقررة أيضاً:
ان الصدق والكذب، أو التصديق والتكذيب في الكنايات وأمثالها لايرجعان الى صورة المعنى، اي الى "المعاني الاولى" كما يعبر عنها فن البيان، بل يتوجهان الى المقصد والغرض، اي الى "المعاني الثانوية". فكما اذا قيل : "طويل النجاد" فالحكم صحيح والكلام صدق ان كان الشخص طويل القامة وان لم يكن له سيف. وكما تكون الكلمة الواحدة في كلام، قرينة المجاز(1) للاستعارة، فان طائفة من الآيات الكريمة، كأنها كلمة واحدة لكلام الله، تكون قرائن لحقائق وجواهر سائر أخواتها، وترجمان وادلاء على ما في ضمائر جاراتها من أسرار.

حاصل الكلام:
من لم يضع هذه الحقيقة نصب العين، وعجز عن موازنة الايات، ولم يتمكن من الحكم بينها حكماً عدلاً، يكون كالبكتاشي الذي قال لتسويغ تركه الصلاة؛ ان القرآن يقول: ﴿لا تقربوا الصلاة﴾.. أما ما بعده فلست حافظاً للآية! ألا يكون هذا موضع هزء في نظر الحقيقة؟!

------------------------------------------------------------------------------------------

(1) أي الاشارة التي تخص المجاز، أي التي تجعل الكلمة مجازاً حتماً وهي القيد الذي يحول الكلمة عن معناها الحقيقي. المترجم.

لايوجد صوت