فجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة – الى حدّ يستلزم القبول – وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا(1).
فما دام أهم درس يلقننا القرآن أياه هو (الإيمان بالآخرة) وهذا الدرس رصين ومتين الى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم مالو اجتمعت مائة الف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء وذلك السوان النابع من هذا الإيمان؛ لذا علينا نحن الشيوخ ان نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: (الحمد لله على كمال الإيمان).
الرجاء السادس
حينما كنت في منفاي ذلك الاسر الاليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل (ضام) المطلة على مراعي (بارلا).. كنت ابحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير المسقفة، المنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك المرتفع، اذا بشيخوختي تشعرني بألوان وانواع من الغربة المتداخلة – كما جاء ذلك في المكتوب السادس بوضوح – ففي سكون تلك الليلة
----------------------------------------------------
(1) ان مدى السهولة في إخبار (الامر الثبوتي) ومدى الصعوبة والاشكال في نفي وانكار ذلك، يظهر في المثال الآتي:
اذا قال احدهم: ان هناك – على سطح الارض – حديقة خارقة جداً ثمارها كعلب الحليب، وأنكر عليه الآخر قوله هذا قائلاً: لا، لا توجد مثل هذه الحديقة. فالاول يستطيع بكل سهولة ان يثبت دعواه، بمجرد اراءة مكان تلك الحديقة او بعض ثمارها. اما الثاني (أي المنكر) فعليه ان يرى ويُري جميع انحاء الكرة الارضية لاجل ان يثبت نفيه، وهو عدم وجود مثل هذه الحديقة.
وهكذا الامر في الذين يخبرون عن الجنة، فانهم يُظهرون مئات الآلاف من ترشحاتها، ويبينون ثمارها وآثارها، علماً ان شاهدين صادقين منهم كافيان لاثبات دعواهم، بينما المنكرون لوجودها، لايسعهم اثبات دعواهم الاّ بعد مشاهدة الكون غير المحدود، والزمن غير المحدود، مع سبر غورهما بالبحث والتفتيش، وعند عدم رؤيتهم لها، يمكنهم اثبات دعواهم!
فيامن بلغ به الكبر عتياً ويا ايها الاخوة! اعلموا ما اعظم قوة الإيمان بالآخرة وما اشد رصانته!.
– المؤلف.