(رسالة الشيوخ) | الرجاء الاول | 12
(1-82)

حيث لا اثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الحزين لحفيف الاشجار وهمهمتها.. احسست بأن ذلك الصدى الاليم قد اصاب صميم مشاعري، ومس اعماق شيخوختي وغربتي، فهمّست الشيخوخةُ في اذني منذرةً:
ان النهار قد تبدل الى هذا القبر الحالك، ولبست الدنيا كفنها الاسود، فسوف يتبدل نهار عمرك الى ليل، وسف ينقلب نهار الدنيا الى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الحياة الى ليل شتاء الموت.
فأجابتها نفسي على مضض:
نعم، كما انني غريبة هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فان مفارقتي لاحبائي الكثيرين خلالا عمري الذي ناهز الخمسين ولا املك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربة تفوق غربتي عن موطني.. واني لأشعر في هذه الليلة غربة اكثر حزناً واشد ألماً من غربتي على هذا الجبل الذي توشح بالغربة والحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراق نهائي عن الدنيا وما فيها، ففي هذه الغربة المكتنفة بالحزن، ومن خلال هذا الحزن الذي يمازجه الحزن، بدأتُ ابحث عن نور، وعن قبس امل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء (الإيمان بالله) لنجدتي ولشد ازري، ومنحني أنساً عظيماً بحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي اضعافاً مشاعفة لكان ذلك الانس كافياً لإزالتها.
نعم، ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. فما دام لنا خالق رحيم، فلا غربة لنا اذاً ابداً.. ومادام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود اذاً، ومادام هو موجوداً وملائكته موجودة. فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولاحسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك السحارى المقفرة كلها عامرة ومأهولة بعبادة الله المكرمين، بالملائكة الكرام. نعم، ان نور الإيمان بالله سبحانه، والنظرة الى الكون لاجله، يجعل الاشجار بل حتى الاحجار كأنها اصدقاء مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من

لايوجد صوت