(رسالة الشيوخ) | الرجاء الاول | 21
(1-82)

مدركاً كنهه لكان يبكيني ويحزنني طوال حياتي الدنيا، حتى لو عمرت مائة سنة حيال بضع سنين تمضي بشنوة وابتسامة، كما قال الشاعر الباكي على شبابه بحسرة مريرة:
ألا ليت الشبابَ يعود يوماً فأُخبره بما فعلَ المشيبُ
نعم ان الذين لم يتبينوا سر الشباب وماهيته من الشيوخ يقضون شيخوختهم بالحسرة والنحيب على عهد شبابهم كهذا الشاعر. والحال ان فتوة الشباب ونضارته اذا ما حلت في المؤمن المطمئن الحصيف ذي القلب الساكن الوقور، واذا ما صُرفت طاقة الشباب وقوته الى العبادة والاعمال الصالحة والتجارة الاخروية، فانها تصبح اعظم قوة للخير وتغدو افضل وسيلة للتجارة، واجمل وساطة للحسنات بل ألذها.
نعم، ان عهد الشباب نفيس حقاً وثمين جداً، وهو نعمة إلهية عظمى، ونشوة لذيذة لمن عرف واجبه الإسلامي ولمن لم يسىء استعماله. ولكن الشباب ان لم تصحبه الاستقامة، ولم ترافقه العفة والتقوى، فدونه المهالك الوبيلة، اذ يصدّع طيشه ونزواته سعادة صاحبه الابدية، وحياته الاخروية، وربما يحطم حياته الدنيا ايضاً. فيجرعه الآلام غصصاً طوال فترة الهرم والشيخوخة لما أخذه في بضع سنين من اذواق ولذائذ.
ولما كان عهد الشباب لا يخلو من الضرر عند اغلب الناس، فعلينا اذن نحن الشيوخ ان نشكر الله شكراً كثيراً على ما نجّانا من مهالك الشباب واضراره. هذا وان لذات الشباب زائلة لا محالة، كما تزول جميع الاشياء. فلئن صُرف عهد الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة ابدية.
ثم نظرت الى (الدنيا) التي عشقها اكثر الناس، وابتلوا بها. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:

لايوجد صوت