زين هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتحد وبأشكال آلائه التي لاتُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الاشياء الصغيرة الجزئية جداً – كالبذور مثلاً – ذلك الصانع الكريم الرحيم، لابد – بل بالبداهة – لايُفني هذا الانسان الذي هو اكمل مخلوقاته واكرمها واجمعها واهمها واحبها اليه، ولا يمحوه بالفناء والاعدام النهائي، بلا رحمة وبلا عاقبة – كما يبدو ظاهراً – ولا يضيعه ابداً.. بل يضع الخالق الرحيم ذلك المخلوق المحبوب تحت التراب الذي هو باب الرحمة موقتاً، كي يعطي ثماره في حياة اخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الارض(1).
وبعد ان تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك المقبرة عندي مؤنسة اكثر من استانبول نفسها، واصبحت الخلوة والعزلة عندي اكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة، مما حدا بي ان اجد مكاناً للعزلة في (صاري ير) على البسفور. واصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه استاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه (فتوح الغيب)، وصار الامام الرباني رضي الله عنه(2) كذلك بمثابة استاذ أنيس ورؤوف شفيق بكاتبه (مكتوبات) فاصبحت راضياً كلياً وممتناً من دخولي المشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الحضارة البراقة ومتعها الزائفة،ومن إنسلالي من الحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرت الله على ذلك كثيراً.
----------------------------------------------------
(1) لقد اثبتت هذه الحقيقة بصورة قاطعة كقطعية (اثنين في اثنين يساوي اربعاً) في سائر الرسائل ولاسيما الكلمة العاشرة والكلمة التاسعة والعشرون. – المؤلف.
(2) هو احمد بن عبدالاحد السرهندي (971-1034ه) الملقب بحق مجدد الالف الثاني. برع في علوم عصره، وجمع معها تربية الروح وتهذيب النفس والاخلاص لله وحضور القلب. رفض المناصب التي عرضت عليه، قاوم فتنة (الملك اكبر) التي كادت ان تمحق الإسلام. وفقه المولى العزيز الى صرف الدولة المغولية القوية من الالحاد والبرهمية الى احتضان الإسلام بما بث من نظام البيعة والاخوة والارشاد بين الناس. طهر معين التصوف من الاكدار. تنامت دعوته في القارة الهندية حتى ظهر من ثمارها الملك الصالح (اورنك زيب) فانتصر الذين في زمانه، وعزّ المسلمون وهان الكفار. له مؤلفات عديدة اشهرها (مكتوبات) ترجمها الى اللغة العربية محمد مراد في مجلدين. – المترجم.