غاية الرقة والحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في اعماقي.. رأيت نفسي: انني بلغت من العمر عتياً، والنهار قد غدا شيخاً، والسنة قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزّني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزّاً عنيفاً. فلقد دنا أوان فراق الدنيا، واوشك أوان فراق الاحباب ان يحلّ.. وبينما اتململ يائساً حزيناً اذا بالرحمة الإلهية تنكشف امامي انكشافاً حوّل ذلك الحزن المؤلم الى فرحة قلبية مشرقة، وبدّل ذلك الفراق المؤلم للاحباب الى عزاء يضىء جنبات النفس كلها.
نعم يا امثالي من الشيوخ! ان الله سبحانه وتعالى الذي يقدّم ذاته الجليلة الينا، ويعرّفها لنا في اكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، بصفة (الرحمن الرحيم).. والذي يرسل رحمته بما يسبغ على وجه الارض دوماً من النعم، مدداً وعوناً لمن استرحمه من ذوي الحياة، والذي يبعث بهداياه من عالم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنعم لاتعد ولاتحصى، يبعثها الينا نحن المحتاجين الى الرزق، مظهراً بها بجلاء تجليات رحمته العميقة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا. فرحمة خالقنا الرحيم هذه اعظمُ رجاءً، واكبر أملاً في عهد شيخوختنا هذه، بل هي اسطع نوراً لنا.
ان ادراك تلك الرحمة والظفر بها، انما يكون بالانتساب الى ذلك (الرحمن) بالإيمان، وبالطاعة له سبحانه باداء الفرائض والواجبات.
الرجاء الثالث
حينما أفقت على صبح المشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت الى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر سعياً من علٍ الى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي المصري(1):
-------------------------------------------------
(1) نيازي المصري: شاعر تركي صوفي (1618-1694م)، ولد في قرية قريبة لولاية (ملاطية). اكمل دراسته في الازهر الشريف فلقب ب (المصري)، له ديوان شعر ومؤلفات منها: رسالة الحسنين، موائد العرفان وعوائد الاحسان، هداية الاخوان. تولى الارشاد في مدارس استانبول العلمية. – المترجم.