وثانية المغالطات: هي انهم يزعمون انهم يرون في اسلوب القرآن خلف المتكلم تمثال انسان، بدليل البحث عن هذه الأشياء الحقيرة والأمور العادية كأسلوب محاورة البشر. أفلا يتذكر هؤلاء المتجاهلون ان الكلام كما ينظر الى متكلمه بجهة؛ كذلك ينظر الى المخاطب به بجهات، على ما تقتضيه البلاغة للتطبيق على مقتضى حال المخاطب. فلما كان المخاطب بشراً وكان البحث عن أحواله والمقصد تفهيمه، لبس القرآن اسلوبَ البشر الممزوج بحسيّاته المسمى بـ(التنزّلات الالهية الى عقول البشر) للتأنيس.. ألا تراك اذا حاورت مع صبيّ تتصبّى له؟
فان قلت: ان حقارة الأشياء وخساستها تنافي عظمة القدرة ونزاهة الكلام؟
قيل لك: ان الحقارة والخساسة والقبح وأمثالها انما هي بالنظر الى مُلك الأشياء وجهتها الناظرة الينا وبالنظر الى نظرنا السطحيّ. وقد وُضعت الأسباب الظاهرية للتوسط في هذه الجهة لتنزيه العظمة. وأما بالنظر الى ملكوتية الأشياء فكلها شفّافة عالية. وهذه الجهة هي محل تعلق القدرة، لايخرج من التعلق شئ؛ فكما اقتضت العظمة وضع الأسباب في الظاهر كذلك تستلزم الوحدة والعزة شمول القدرة لكلٍ واحاطة الكلام به؛ على ان القرآن المكتوب على ذرّة بالجواهر الفردة ليس بأقل جزالةً من القرآن المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم، وان خلقة الذباب ليست بأدنى صنعا من خلقة الفيل. فالكلام كالقدرة.
فان قلت: الى أيّ شئ تعود الحقارة الظاهرية في هذه التمثيلات؟
قيل لك: انما تعود الى الممثَّل له دون الممثِّل، فكلما كانت مطابقته للممثَّل له أحسن، كانت درجة الكلام أعلى ونظام البلاغة أرفع. ألا ترى ان السلطان اذا أعطى راعيه ما يليق به من اللباس وألقى الى