أما هيئات جملة ﴿ان الله لايستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها﴾ فاعلم! ان ﴿ان﴾ للتحقيق وردّ التردد والانكار فهي اشارة الى الترددات المتسلسلة المذكورة.. وان لفظة (الله) لتنبيه الذهن على الخطأ في القياس المذكور.. وان ايثار ﴿لايستحيي﴾ على (لايترك) مع ان الحياء - وهو انقباض النفس - محال في حقه تعالى ونفى المحال لا فائدة فيه، اشارة الى ان الأسباب من الحكمة والبلاغة وغيرهما تقتضي حسن التمثيل فلا علة للترك الا الحياء، والحياء عليه تعالى محال فلا سبب للترك أصلا فألزمهم أشدّ إلزام وألطفه.. وكذا رمز بمشاكلة الصحبة الى كلمتهم الحمقاء من قولهم: (أما يستحي ربّ محمد من التمثيل بهذه المحقّرات).. وان ايثار ﴿ان يضرب﴾ على (من المثل الحقير) مع انه الأنسب، اشارة الى اسلوب لطيف وهو: ان التمثيل كضرب الخاتم للتصديق والاثبات، أو كضرب السكة للقيمة والاعتبار. وفي الاشارة رمز الى حسن التمثيل طرداً للأوهام، وكذا اشارة الى ان التمثيل منهاج مشهور مستحسن، لأن ضروب الأمثال من القواعد المعروفة.. وان ايثار ﴿ان يضرب﴾ على (ضرب) مع انه الأوجز للايماء الى أن منشأ الاعتراض ليس إلاّ الخساسة. لأن ﴿ان يضرب﴾ لعدم استقلاله كأنه لطيف يُمرّ القصدَ الى المفعول.. وأما (ضرب) فلاستقلاله كأنه كثيف يستوقف القصد.. وان ﴿مثلا﴾ ايماء الى خاصية التمثيل من تصوير المعقول بالمحسوس، والموهوم بالمحقق، والغائب بالشاهد. ومنه ايماء الى رد الوهم.. وتنكير ﴿مثلا﴾ رمز الى ان مدار النظر هو ذات التمثيل، وأما الصفات فمحمولة على طبيعة المقام وحال الممثَّل له.. وان التعميم في ﴿ما﴾ اشارة الى تعميم القاعدة لئلا يختص الجواب بما اعترضوا به فالممثَّل له أية صورة أقتضى استحسنتها البلاغة. وان تخصيص ﴿بعوضة﴾ اشارة الى كثرة استعمال البلغاء للتمثيل بها كقولهم (أضعف من البعوضة)(1) و(أشد عنادا من البعوضة) و (كلفتني مخ البعوضة) و (أعزّ من مخ البعوضة)(2) و (قالت البعوضة للنخلة استمسكي انا أطير) و (الدنيا لا توزن عندالله جناج بعوضة) وقس.. وفي الاشارة رمز الى ضعف وهمهم.. وان المعنى بـ﴿ما فوقها﴾ مادونها في الصغر وما
--------------
(1) جمهرة الامثال للعسكرى 2/.3.
(2) جمهرة الامثال للعسكرى 2/33