اشارات الاعجاز | اِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي اَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما | 242
(235-248)

حق الفاسق ناراً والضياء ظلمة. ألا ترى ان ضياء الشمس يعفن ما استقذرت مادته. وان وجه التوصيف بقوله ﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض﴾ هو انه شرحٌ وكشف للفسق اذ الفسق عدول عن الحق وتجاوز عن الحد وخروج من القشر الحصين. وان الفسق انما هو بالافراط أو التفريط في القوى الثلاث التي هي القوّة العقلية والغضبية والشهوية.. وان الافراط والتفريط سببان للعصيان في مقابلة الدلائل التي كالعهود الالهية في الفطرة.. وكذا وسيلتان لمرض الحياة النفسية وأشير الى هذا بالصفة الأولى.. وكذلك محرِّكان للعصيان في مقابلة الحياة الاجتماعية وتمزيق الروابط والقوانين الاجتماعية وأشير الى هذا بالصفة الثانية.. وأيضا هما سببان للفساد والاختلال المنجر الى فساد نظام الأرض وأشير الى هذا بالصفة الثالثة. نعم! ان الفاسق بتجاوز القوة العقلية عن حد الاعتدال يكسر رابطة العقائد ويمزق القشر الحصين اي الحياة الأبدية.. وبتجاوز القوة الغضبية يمزق قشر الحياة الاجتماعية.. وبتجاوز القوة البهيمية واتباع الهوى يزيل عن قلبه الشفقة الجنسية فيفسد ويورط الناس فيما تورط فيه فيكون سببا لضرر النوع وفساد نظام الأرض.
وان نظم جملة ﴿أولئك هم الخاسرون﴾ هو: انه لما ذكر جنايات الفاسق ورهب بها أكد التهديد بنتيجتها وجزائها ليؤثر الترهيب. فقال: هم الذين خسروا ببيع الآخرة بالدنيا واستبدال الهدى بالهوى..(1)
ولنشرع في نظم هيئات جملة جملة، فاعلم! ان الآيات وجملها وهيئاتها كأميال الساعة التي تعدّ الثواني والدقائقَ والساعاتِ، فكلما يثبت هذا شيئاً يؤيده ذاك بدرجته ويمده ذلك بنسبته، وكذا اذا اراد هذا شيئاً عاونه ذاك وساعده الآخر بحيث يُخطر الحال ما قيل:
عِبَارَاتُنا شَتّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌ الى ذَاكَ الْجَمالِ يُشِيرُ
ولهذا السر قد بلغت سلاسة القرآن وعلوّ طبقته ودقة نقشه الى مرتبة الاعجاز.

---------------

(1) لعله: استبدال الهوى بالهدى.

لايوجد صوت