أما نظم الجمل بعضها مع بعض ففطريّ في غاية السلاسة: فالأولى: تحقيق لمضمون ﴿اني أعلم ما لا تعلمون﴾ وتفصيل لما أجمل فيها وتفسير لما أبهم.. وكذا ان خلافة الله تعالى في أرضه لإجراء أحكامه وتطبيق قوانينه تتوقف على علم تام.. وكذا ان انصباب الكلام في الآية الأولى ينجر الى (فخلقه وسوّاه ونفخ فيه من روحه وربّاه ثم علّم الأسماء وأعده للخلافة). ثم لما اصطفاه على الملائكة وميّزه بعلم الأسماء في مسألة الرجحان واستحقاق الخلافة اقتضى مقام التحدِّي عرض الأشياء عليهم وطلب المعارضة منهم. ثم لما أحسوا بالعجز من أنفسهم اقرّوا بحكمته تعالى واطمأنوا. ولهذا قال: ﴿ثم عرضهم على الملئكة فقال انبؤني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين﴾. (قالوا) أي متبرئين مما دسّه في استفسارهم انانيةُ ابليس ﴿سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم﴾(1) ثم لما ظهر عجزهم لعدم جامعية استعدادهم اقتضى المقام بيان اقتدار آدم حتى يتم التحدِّي فقال: ﴿يا آدم أنبئهم باسمائهم﴾ ثم لما امتثل وظهر سر الحكمة فيه اقتضى المقام استحضار الجواب الاجمالي السابق وجعله كالنتيجة لهذا التفصيل فقال: ﴿ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون﴾ واعلم! انه قد تشفّ وتحسّ صورة المقاولة عن تولّد انانية ابليس فيما بين الملائكة وتشعر بتداخل اعتراض طائفة بين استفسارهم.
أما نظم هيئات جملة جملة: فجملة ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ أي صوّره بفطرة تضمنت مبادئ أنواع الكمالات، وخلقه باستعداد زرع فيه أنواع المعالي، وجهزه بالحواس العشر وبوجدان تتمثل فيه
---------------------------
(1) لقد جاءت الى لساني - دون اختيارٍ مني- هذه الآية الكريمة في ختام معظم (الكلمات) و (المكتوبات) من رسائل النور، والآن فقط ادركت ان تفسيري هذا قد اُختتم ايضاً بهذه الآية الكريمة. فجميع (الكلمات) اذاً ما هي الاّ تفسير حقيقي لهذه الآية الكريمة، وجدول رقراق ينساب من بحرها ثم يصب فيه في خاتمة المطاف. حتى لكأن كل ( كلمة) من (الكلمات) تنبع من هذه الآية الكريمة. فانا اذاً لم استكمل منذ ذلك الوق تفسير هذه الآية كي اشرع في الجزء الثاني من التفسير.
سعيد النورسي (ت:244)