سنوحات | افادة مرام | 34
(1-39)

الوضع الفطري لأوروبا التي هي كنيسة النصرانية عامة، ومنبع حياتها، فهي ضيقة، جميلة، تملك الحديد، متعرجة السواحل، تلتف فيها الانهار والبحار التفاف الامعاء في الجسد، مناخها بارد.
نعم، ان اوروبا على الرغم من كونها عُشر الخمس للكرة الارضية، فانها جذبت ربع البشرية نحوها بلطافة مناخها الفطري.
وانه ثابت حكمةً : ان اجتماع الافراد الكثيرين يولّد الحاجات، فلا يستوعب انتاج الارض تلك الحاجات التي تتزايد باسباب كثيرة - كالتقليد وغيره - ومن هنا تصبح الحاجة ام الاختراع والصناعة، وحب الاستطلاع معلّم العلم، والضيق الروحي مولد السفاهة.
نعم ان التوجه نحو الصناعة والميل الى المعرفة ينشأ من الكثرة. فبسبب ضيق المكان في اوروبا، وكثرة بحارها وانهارها التي هي وسائط نقل طبيعية فيها، فان التعارف ينتج التجارة، والتعاون الاشتراك في الاعمال، مثلما يولد التّماس تلاحق الافكار والمنافسة والتسابق.
ولكثرة ما فيها من الحديد - الذي هو منبع جميع صناعات اوروبا اعطى لمدنيتهم السلاح القوي حتى غصبت انقاض مدنيات الدنيا كلها وأغارت عليها، الى حد اثقلت كفتها وأخلّت بميزان الكرة الارضية.
ثم ان البرودة المعتدلة التي من شأنها ان تأخذ كل شئ ببطء وتتركه ببطء، قد أعطت لسعيهم الثبات والمتانة، فأدامت مدنيتهم.
ثم ان تشكل دولهم المستندة الى العلم، وتصادم قواهم المتكافئة، وازعاجات استبداداتهم الغدارة، ومضايقات تعصبهم المقيت الظالم -كتعصب محاكم التفتيش- والذي آل الى خلاف المقصود، والتسابق الجاري بين عناصرها المتوازنة.. كل ذلك نمّى استعدادات الاوروبيين ، وفجّر قابلياتهم فظهرت لديهم المزايا، والفكر القومي.
السبب الثاني:
هو نقطة الاستناد. نعم ان اي نصراني كان اذا ما رفع رأسه ومدّ يده الى اي مقصد من المقاصد المتسلسلة المتداخلة، اذا به يجد وراءه نقطة استناد قوية تعزز قوته المعنوية وتبعث فيها الحياة، حتى يجد في نفسه من القوة ما يمكّنه ان يقتحم كل صعب وعظيم من الاعمال.

لايوجد صوت