لوحة الفراق الحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمر بعد مائتي سنة على ديار أحبته واطلالها..
عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي امام عيني وخيالي واحدة تلو الاخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الاماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فاصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة امام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يخدعون انفسهم، فالوضع هذا يبين بداهة ان الدنيا لامحالة فانية، وان الانسان فيها ليس الاّ عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله اهل الحقيقة:
-(لاتنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكارة.. فانية..).
ورأيت كذلك أن الانسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن ابكي بعينيّ لشيخوختي – باعتبار وجودي – كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بحاجة الى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة الشبيهة بالميتة.
لقد ورد في الحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح: (لدوا للموت وابنوا للخراب)(1) كنت اسمع هذه الحقيقة، اسمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فان خيالي منذ عشرين سنة يذرق الدموع ايضاً كلما مرّ على ذلك الحال. نعم ان دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمرت آلاف السنين، واكتهال المدينة التي
-------------------------------------------------
(1) البيهقي في الشعب من حديث عن ابي هريرة والترمذي مرفوعاً، ابو نعيم في الحلية عن ابي ذر مرفوعاً، واحمد في الزهد عن عبدالواحد قال: عيسى عليه السلام، فذكره (الدرر المنتثرة) وانظر كشف الخفاء (2041). – المترجم.