والثالثة:
ان فيه اشارة الى ان مآل القرآن - اعني الاسلامية الناشئة في زمان السعادة - كشجرة أصلها ثابت في أعماق الماضي، منتشرة العروق متشربة عن منابع حياتها وقوتها، وفرعها في سماء الاستقبال ناشرة أغصانها مثمرة. أي اخذت الاسلامية بقرني الماضي والاستقبال.
والرابعة:
ان فيه اشارةً الى تشويق اهل الكتاب على الايمان وتأنيسهم، والتسهيل عليهم. كأنه يقول: (لايشقنّ عليكم الدخول في هذا السلك، اذ لاتخرجون عن قشركم بالمرة بل انما تكملون معتقداتكم، وتبنون على ماهو مؤسس لديكم) اذ القرآن معدِّل ومكمِّل في الاصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة واصول الشرائع السالفة. إلا انه مؤسِّس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغير الزمان والمكان؛ فكما تتحول الادوية والالبسة في الفصول الاربعة، وطرز التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي الحكمة والمصلحة تبدل الاحكام الفرعية في مراتب عمر نوع البشر. فكم من حكم فرعي كان مصلحة في زمان، ودواء في وقت طفولية النوع، لايبقى مصلحة في آخر، ودواء عند شبابية النوع. ولهذا السر نَسخَ القرآن بعض الفروع. اي بيّن انقضاء اوقات تلك الفروع ودخول وقت آخر.
وفي ﴿من قبلك﴾ لطائف:
اعلم! انه ما من كلمة في التنزيل يأبى عنها مكانها، أو لم يرض بها، أو كان غيرُها أولى به. بل مامن كلمة من التنزيل إلا وهي كدرٍّ مرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فان شئت مثالا تأمل في: ﴿من قبلك﴾ كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية توضّعت على هذه الكلمة الفذة.
فان ﴿من قبلك﴾ تشربتْ وتلونت - فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائف