اشارات الاعجاز | اَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَع | 161
(155-169)

لبساتين الأرض، ملوحا ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها. فبناء على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخياليّ استحسن اسلوب العرب تشبيه السحاب لاسيما الصيفيّ بالجبال والسفن والبساتين والأودية وقافلة الإبل كما تسمع من العرب في خطبهم. فيخيل الى نظر البلاغة ان قطعات السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة في الجو، كأن الرعد راعيها وحاديها كلما هزّ عصا بَرقه على رؤسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت، وتراءت جبالا صادفت الحشر، أو سفنا يلعب بها يد العاصفة، أو بساتين ترججها من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قطاع الطريق. ومع ذلك يسيرون ويجرون بأمر خالقهم حتى كأن كل ذرة من ذرات ذلك البخار تكمَّنتْ في مكانها اوّلا ساكتة ساكنة منتظرة لأمر خالقها. ولما ناداها الرعدُ - كالآلة المعروفة في العسكر - بـ(حَيَّ على الاجتماع والاتحاد!) تسارعوا من منازلهم مهطعين الى داعيهم فيحشرون سحابا. ثم بعد ايفاء الوظيفة وأمرهم بالاستراحة يطير كل الى وكره.. فبناء على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال - إذ الجبل لجذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره ويلبس لباسه - وعلى تلون السحاب بنظير بياض الثلج والبرد وتكيفه برطوبتهما وبرودتهما، وعلى وجود الأخوة بينهما ومبادلة الصورة واللباس لهما في كثير من مواضع القرآن ومصافحتهما في منازل التنزيل كمحاورتهما ومعانقتهما في كثير من سطور صحيفة الأرض من كتاب العالم فترى السحاب متوضعا على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسى لسفن السحاب ترسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير اليه - استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة ان يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل - مع تناسي التشبيه. فاذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات فـ﴿يُنزّل من السماء﴾ أيْ من جهة السماء. (من جبال) أي من سحاب كالجبال. (من برد) أي في لونه ورطوبته وبرودته.
فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي اتقن كل شئ صنعاً.

لايوجد صوت