محاكمات | المقدمة الاولى | 71
(1-90)

فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت ايضاً، ولا سيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو.
وبناء على هذا فان نظم اللفظ الذي هو ارض قاحلة جرداء لاتصلح لأن تكون مسيلاً لجريان الافكار ومنبتاً لأزاهير البلاغة، اعترض مجرى البلاغة الطبيعي وهو نظم المعنى فشوش البلاغة.
وحيث ان المبتدئين ومن لامهارة لهم احوج من غيرهم الى ترتيب اللفظ وتحسينه وتحصيل المعاني اللغوية - بسوء اختيارهم أو بسَوق الحاجة - فقد صرفوا جلّ اهتمامهم الى اللفظ ورغبوا فيما هو أسهل مجرى وأظهر للنظر العابر وآنس للعوام وأولى بأن ينجذبوا اليه وينفعلوا به ويجتمعوا حوله. لذا انجذبوا الى تنميق الالفاظ صارفين اذهانهم عن تنسيق المعاني والتغلغل فيها، تلك المعاني التي كلما قطعت بها مفازة تراءت صحارى شاسعة باهرة منها.. وهكذا سار الأمر بهم حتى افترقت اذهانهم فداروا حيث دار اللفظ بعد تصور المعاني. بل حتى غلب اللفظ المعنى وسخّره لنفسه،فاتسعت المسافة بين طبيعة البلاغة، وهي كون اللفظ خادماً للمعنى، وصنعة العاشقين للفظ.
فان شئت فادخل في "مقامات الحريري" فانه مع جلالة قدره في الأدب، فقد استهواه حب اللفظ وبذلك أخلّ بأدبه الرفيع، فاصبح قدوة للمغرمين باللفظ، حتى خصص الجرجاني - ذلك العملاق - ثلث كتابيه دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، دواءً لعلاج هذا الداء.
نعم! ان حب اللفظ داء، ولكن لايعرف انه داء!
تنبيه:
كما ان حب اللفظ مرض، كذلك حب التصوير (الفني)، وحب الاسلوب، وحب التشبيه، وحب الخيال، وحب القافية مرض مثله. بل ستكون هذه الامراض بالافراط امراضاً مزمنة في المستقبل، كما تبدو البوادر من الآن. حتى يضحى بالمعنى في سبيل ذلك الحب، بل بدأ كثير من الادباء باساءة الادب والاخلاق لأجل نادرة ظريفة، أو لإتمام قافية رنانة.

لايوجد صوت