محاكمات | المقدمة الاولى | 73
(1-90)

ان الذي جمّل هذا الشعر هو مشابهة ما فيه من الخيال الى حدٍ ما بالحقيقة. اذ الارض تُحدث صوتاً وأزيزاً اذا تأخر عنها المطر فتمص ماءه مصاً. والذي يشاهد عنها هذه الحالة ينتقل خياله الى تأخر المطر وشدة حاجة الارض اليه، وبسر الدوران المعلوم وبتصرف الوهم يُفرغ الخيالُ نفسَه في صورة عشق وحوارٍ بينهما.
أشارة: لابد في كل خيال من نواة من حقيقة، مثل هذه النوية.

المسألة الثالثة
ان حلل الكلام أو جماله وصورته: باسلوبه، أي بقالب الكلام.
اذ الاسلوب يتنور ويتشرب ويتشكل باتخاذه تلاحق قطعات الاستعارة التمثيلية، المتركبة من الصور، الحاصلة بخصوصيات من تمايلات الخيال، المتولدة بسبب تلقيح الصنعة (البيانية) أو المباشرة أو التوغل او دقة الملاحظة. فالاسلوب بهذا قالب الكلام كما هو معدن جماله ومصنع حلله الفاخرة. فكأن المتكلم ينادي بارادته - التي تنبه العقل - فيوقظ المعاني الراقدة في زوايا القلب المظلمة، فتخرج حفاةً عراةً وتدخل الخيال الذي هو محل الصور. فتلبس - المعاني - ما تجده من صور في خزينة الخيال تلك، فتخرج بعلامة مهما قلت، حتى قد تلفّ على رأسها منديلاً أو تخرج لابسة نعلاً، أو تخرج بازرار أو بكلمة تدل على أنها تربّت هناك.
فاذا انعمت النظر في اسلوب الكلام - الكلام الطبيعي الفطري - ترى المتكلم في مرآة الاسلوب، حتى كأن نَفْسَه في أنفاسه ونبراته، وماهيته في نفثاته، وصنعته ومزاجه ممتزجان في كلامه، فلو تخيلت الامر هكذا لما عوتبت في مذهب الخياليين.
فان كان في خيالك مرض من الشك في هذا، فزرْ مستشفى قصيدة "بردة المديح". وانظر كيف كتب الحكيم البوصيري وصفته الطبية باستفراغ الدمع وحمية الندم:
واستفرِِغ الدمعَ من عينٍ قد امتلأتْ من المحارم والزَمْ حِميةَ النَدَم

لايوجد صوت