محاكمات | المقدمة الاولى | 74
(1-90)

وان اشتهيت شرب زلال المعنى من زجاج الحقيقة -أي الاسلوب- وترى امتزاجهما فاذهب الى الخمّار واسأله: ما الكلام البليغ؟ فسيقول لك بدافع من صنعته: الكلام البليغ ما طبخته مراجل العلم وبقي في دنان الحكمة وصفّته مصفاة الفهم، فدار به الساقون الظرفاء، فشربته الافكار، وتمشّى فيه الاسرار، فاهتزت به الاحاسيس.
وان لم يَرُق لك كلام هؤلاء السكارى، فاستمع الى مهندس الماء، هدهد سليمان عليه السلام، في النبأ الذي أتى به من سبأ، كيف وصف الذي علّم القرآن وأبدع السموات والارض، اذ يقول الهدهد: اني رأيت قوماً لايسجدون لله: ﴿الذي يخرج الخبء في السموات والارض﴾(النمل:25) فانظر كيف اختار من بين الاوصاف الكمالية ما يشير الى هندسة الهدهد.
اشارة: مرادي بالاسلوب: قالب الكلام وصورته، وآخرون يقولون غير هذا. وفائدته البلاغية: التحام تفاريق القصة وقطعها المشتتة، لتهتزّ القصة كلها بتحريك جزء منها حسب القاعدة (اذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه). اذ لو وضع المتكلم بيد السامع طرفاً من الاسلوب فالمخاطب يمكن ان يرى تمامه بنفسه ولو مع شئ من الظلمة. فانظر اينما كان لفظ "بارز" فانه كالنافذة تريك ميدان الحرب.
نعم هناك كثير من امثال هذه الكلمات لو قيل انها مشاهد سينما الخيال فلاحرج.
تنبيه:
ان مراتب الاسلوب متفاوتة جداً؛ بعضها ارق من النسيم اذا سرى في السحر. وبعضها اخفى من دسائس دهاة الحرب في هذا الزمان، لايشمّه الاّ ذوو الدهاء، كاستشمام الزمخشرى من الاية الكريمة ﴿من يحيى العظام وهي رميم﴾(يس:78) اسلوب من يبرز الى الميدان!
نعم ! ان العاصي لله انما يبارز خالقه ويحاربه معنىً.

المسألة الرابعة

لايوجد صوت