وايضاً ان الفلسفة لما لم تر باب الحشر والاخرة الذين يبرهن عليهما الحق سبحانه وتعالى باسمائه وتشهد عليهما الكائنات بافرادها وسلسلة النبوة بحقائقها والكتب السماوية بآياتها – انكرت الحشر والآخرة واعتقدت ان الارواح قديمة غير حادثة. هذا بعض مما تقوله الفلسفة ولك ان تقيس عليه اشباهه. وقد تبين من هذا ان الشياطين اختطفوا عقول هؤلاء الفلاسفة بمنقار انا ومخالبه ورمتها في اودية الضلالة، فانا في العَالَمِ الصغير (الانسان) كالطبيعة في العالم الكبير كلاهما من الطواغيت ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ .
وقد قلت في الرسالة المسماة (باللمعات) التي ماهي بنـزم ولكنها تشبه النظم – قصةً خيالية تخيلتها تلك الايام التي غيرت خطتي فيها وتركت الاشتغال بالفلسفة- تخيلتها حينما كنت اتفكر في المناهج الثلاثة التي يشير اليها آخر سورة الفاتحة وهوَ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾. واريد ان اذكرها هنا بهذه المناسبة توضيحاً للمقام.
وهي: اني رأيت نفسي في مفازة شاسعة سماؤها كانت مطبقة بالسحاب والظلمات، لاهواء ولاضياء ولاماء فيها، والسباع والوحوش تجول هنا وهناك. فخطر على قلبي انه يوجد في الجانب الآخر من الارض مايلزم لحياة الانسان من الهواء والضياء والماء ولابد لي من الذهاب إلى هناك. وكنت اراني اساق إلى هناك في جوف الارض اضطراراً، ومررت باخدود تشبه اخدود القطار تحت الجبال وجرت سياحتي في جوف الارض وكنت احس بان قد جرت سياحات كثيرة في جوف الارض قبلي حيث يوجد آثار الاقدام في كل مكان، وكنت اسمع اصوات بعض منهم في بادىء الامر. ثم بعد ذلك خلت تلك الاصوات يامن يرافقني في هذه السياحة الخالية! إن المراد من تلك المفازة التي رأيتها هي الطبيعة، والمراد بالأخدود هو الطريق الذي يذهب إلى الحقيقة والذي تسلكه الفلاسفة. وما رأيت من آثار الأقدام هي آثار أقدام أفلاطون وأرسطو(1). وما سمعته من الأصوات التي اختفت بعد هي أصوات أمثال ابن سينا والفارابي.
(1) ان قلت: ماذا تكون أنت حتى تبرز الى ميدان هؤلاء المشاهير؟ فبما أنك كذبابة تتدخل إلى طيران الأصقر؟
أقول: إذ أن لي استاذاً أزلياً مثل القرآن؛ فلا أحتاج في سبيل الحق والمعرفة إلى أن أعرف فضلا يوازي جناح ذبابة للاصقر الذين هم تلامذة الفلسفة الضالة والعقل المبتلى بالأوهام. فمهما كنت أحط منهم، فكذلك استاذهم أحط من أستاذي بألف درجة. فان المادة التي هم غرقوا فيها لم تند قدمي بقوة وفضل أستاذي... نعم، إن موظفاً حاملا لأوامر ملك صاحب جلالة، يمكنه أن يفعل أعمالا أكبر مما يفعله مشير كبير لملك صغير ضئيل القوة.