اللمعات | اللمعة السادسة والعشرون | 429
(384-464)

سنوات. ولكن بارشاد القرآن الكريم وبهمة الشيخ الكيلاني، وبانتباهي بالشيخوخة، تولد عندي سأم وملل من الحياة الحضارية في استانبول، وبت أنفر من حياتها الاجتماعية البهيجة، فساقني الشوق والحنين المسمى ب (داء الغُربة) الى بلدتي، اذ كنت اقول: مادمت سأموت فلأمت اذن في بلدتي.. فتوجهت الى مدينة (وان).
وهناك قبل كل شيء ذهبت الى زيارة مدرستى المسماة ب(خورخور) فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما احرقوا بقية البيوت الموجودة في (وان) اثناء الاحتلال الروسي.. صعدت الى القلعة المشهورة في (وان) وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تحتها مدرستي الملاصقة بها تماماً، وكانت تمرّ من امامي أشباح اولئك الاصدقاء الحقيقيين والاخوة المؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة اصبح قسم من اولئك الاصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين، فلم اتمالك نفسي من البكاء والنحيب.. صعدت الى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو المنارتين ومدرستي تحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الخيال الى ما يقرب من ثماني سنوات خلَتْ وجال بي الخيال في ذلك الزمان، لما لخيالي من قوة ولعدم وجود مانع يحول بيني وبين ذلك الخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، اذ كنت وحيداً منفرداً.
شاهدت تحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثماني سنوات حتى أنني كلما كنت افتح عيني أرى كأن عصراً قد ولى ومضى باحداثه. رأيت ان مركز المدينة المحيطة بمدرستي – الذي هو بجانب القلعة – قد أحرق من اقصاه الى أقصاه ودمر تدميراً كاملاً. فنظرت الى هذا المنظر نظرة حزن وأسى.. اذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ماكنت فيه وبين ماأراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه المدينة.. كان أغلب الذين يعمرون هذه البيوت المهدّمة أصدقائي، وأحبة اعزّاء عليّ.. فلقد توفى قسم منهم بالهجرة من المدينة وذاقوا مضاضتها،

لايوجد صوت