تغمدهم الله جميعاً برحمته. حيث دُمرت بيوت المسلمين في المدينة كلياً ولم تبق الاّ محلة الأرمن، فتألمت من الاعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.
كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت الى مدينتي، ولكن – وياللاسف – لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ اذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً – كعبدالرحمن المار ذكره في الرجاء الثاني عشر – رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والانقاض، ورأيت أن منازلهم أصبحت أثراً بعد عين، وامام هذه اللوحة الحزينة تجسد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلاّ انني لم اكن افهم معناها تماماً:-
لولا مفارقةُ الاحبابِ ما وجَدَتْ لها المنايا الى ارواحنا سبُلاً(1)
أي ان اكثر ما يقضي على الانسان ويهلكه انما هو مفارقة الاحباب.
نعم، انه لم يؤلمني شيء ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغم والحزن والهم يؤثر فيّ الى درجة كافية لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على اطلالها فرأيت بعيني لوحة الفراق الحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمر بعد مائتي سنة على ديار أحبته واطلالها..
عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي امام عيني وخيالي واحدة تلو الاخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم
---------------
(1) قول المتنبي: لولا مفارقة الاحباب.. الخ.. في (لها) وجه غريب، وهو أن تقدره جمعاً للهاة، كحصاة وحصا، ويكون (لها) فاعلاً بـ(وجدت) و (المنايا) مضافاً اليه. ويكون اثبات اللهوات للمنايا استعارة شُبهت بشيء يبتلع الناس. ويكون اقام (اللها) مقام الافواه، لمجاورة اللهوات للفم. (عن مغنى اللبيب 1/234). – المترجم.