والوجدان معاً، فكما يتداخل الى العقل يتقطر الى الوجدان أيضا. والمتكفل لهذين الوجهين التمثيلُ؛ اذ هو يتضمن قياساً وينعكس به في مرآة الممثل القانون المندمج في الممثل به. فكأنه دعوى مدلَّل. كما تقول في رئيس يكابد البلايا لراحة رعيته: (الجبل العالي يتحمّل مشاقّ الثلج والبَرَد، وتخضرّ من تحته الأودية).
ثم ان أساس التمثيل هو التشبيه. ومن شأن التشبيه تحريك حسّ النفرة أو الرغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف الى آخره... فبصورة الأسلوب يوقَظ الوجدان وينبَّه الحسُّ بميلٍ أو نفرة.
ثم ان مما يحوِّج الى التمثيل عمق المعنى ودقته ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرّق المقصد وانتشاره ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن الكريم؛ اذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيلات العالية وأساليب لحقائق محضة ومعقولات صرفة؛ ولأن العوام لايتلقون الحقائق في الأغلب الاّ بصورة متخيلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة الاّ بأساليب تمثيلية لم يكن بدّ من المتشابهات كـ﴿اِسْتوى عَلَى الْعَرْشِ﴾(سورة الاعراف:54) لتأنيس اذهانهم ومراعاة أفهامهم.
ثم اني استخرجت - فيما مضى من الزمان - من اسّ اَساس البلاغة مقدِّمة لبيان اعجاز القرآن الكريم ثنتي عشرة مسألة. كل منها خيط لحقائق(1). ولما ذكرت هذه الآيات التمثيلية هنا -دفعةً- ناسب تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:
المسألة الأولى:
ان منشأ نقوش البلاغة انما هو نظم المعاني دون نظم اللفظ كما جرى عليه اللفظيون المتصلفون، وصار حب اللفظ فيهم مرضاً مزمناً الى ان رد عليهم عبد القاهر الجرجاني(2) في دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثر من مائة صحيفة.
--------------------
(1) المقصود المقالة الثانية من كتاب (محاكمات "عقلية" )ـ الصيقل الاسلامي.
(2) (ت 471هـ / 1078م) اِمام في اللغة والبلاغة، له مصنفات منها: كتاب المغني (30 مجلد) المقتصد (3 مجلدات) اعجاز القرآن، المفتاح، دلائل الاعجاز، اسرار البلاغة.