فان شئت فادخل من الباب الواحد والعشرين بعد المئتين من "دلائل الاعجاز" تلك الجنة الفردوس، تر ان ذلك الداهية عبدالقاهر الجرجاني قد اخذ الى جانبه امثال هؤلا المتعسفين يوبخهم ويعنفهم.
البلاء السابع: هو حصرهم العَرَضَ(1) كالحركة على الذاتي(2)، والأينية(3) مما نكر المعرّف ولزم انكار الوصف الجاري على غير مَن هو له. وبهذا حادت شمس الحقيقة عن جريانها. اما نظر هؤلاء الى اساليب العرب، كيف يقولون: صادفتنا الجبال، ثم فارقتنا.. تراءت لنا وبعُدَت عنا.. والبحر ايضاً ابتلع الشمس ... الخ. وكم يقلبون الخيال لاسرار بيانية كما في المفتاح للسكاكي، وهذا لطافة بيانية مؤسسة على مغالطة وهمية، بسرّ الدوران(4).
وسأبين هنا مثالين مهمين لينسج على منوالهما: ﴿وينزل من السماء من جبال فيها من بَرَد﴾(النور:43) ﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾(يس:38).
هاتان الآيتان الكريمتان جديرتان بالملاحظة والتدبر. لان الجمود على الظاهر جحود بحق البلاغة، اذ الاستعارة البديعة في الآية الاولى تتوقد بحيث تذيب الجمود المتجمد، وتشق كالبرق ستار سحب الظاهر. اما البلاغة في الآية الثانية فهي مستقرة وقوية ولامعة بحيث تقف الشمس لمشاهدتها.
فالآية الاولى نظيرتها: ﴿قوارير من فضة﴾(الانسان:16) التي تضمنت استعارة بديعة مثلها، وذلك: كما ان اواني الجنة ليست زجاجاً فهي ليست فضة كذلك، بل مباينة الزجاج للفضة قرينة الاستعارة البديعة. اي ان الزجاج بشفافيته والفضة ببياضها ولمعانها كأنهما نموذجان لتصوير اقداح الجنة، ارسلهما الرحمن الى هذا العالم ليهيجا الرغبة لدى المشتاقين الى الجنة ممن يبذلون انفسهم واموالهم في طلبها. ومثل هذا تماماً، تتقطر استعارة بديعة من الآية الكريمة: ﴿من جبال فيها من برد﴾.
-------------------------------------------------------------
(1) العرض: هو الذي لا يبقى زمانين او ما له تحيّز تابع لمحل، كالحركة والسكون والحمرة والصفرة في وجه الانسان مثلاً.
(2) الذاتي: يراد به هنا ما له تحيّز مستقل بنفسه، أي يأخذ قدراً من الفراغ بنفسه.
(3) الاينية: يراد بها المكان والمحل، لانه يسأل عنه بـ "أين".
(4) لعله الدوران عند علماء الاصول، وهو : يوقف المعلول على علته وجوداً وعدماً، أي كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انعدمت انعدم والله اعلم. د. عبد الملك