ثانيتها: ان مسألة واحدة قد تتفاوت بصدورها عن متكلمين، اذ احدهما لما نظر الى مبدئها ومنتهاها، ولاحظ ملاءمتها مع السياق والسباق، واستحضر مناسبتها مع اخواتها، ورأى موضعاً مناسباً فاحسن استعمالها فيه، وتحرى ارضاً منبتةً فزرعها فيها.. مما دل كلامه على ماهريته وحذاقته.. اما الاخر فلانه اهمل هذه النقاط، دل كلامه في المسالة على سطحيته وتقليده وجهله، علماً ان الكلام هو الكلام نفسه. فان لم يميّز عقلك هذا فروحك تحس به.
ثالثتها: ان كثيراً من الكشوف التي كانت تعدّ من الخوارق قبل عصرين، لو كانت في هذا العصر لعدّت من الامور الاعتيادية، وذلك بسبب تكمل المبادئ والوسائط، حتى يلعب بها الصبيان كما ذكر في المقدمة الثانية. استحضر هذا واجعله نصب عينك، ثم ارجع بخيالك الى ما قبل ثلاثة عشر قرناً وتجرد من التأثيراتالزمانية والمكانية، وانظر الى الامور في جزيرة العرب تر:
انساناً وحيداً لاخبرة سابقة له في امور الانظمة والمجتمع، ولم تعنه احوال زمانه وبيئته، الاّ انه اسس نظاماً، وارسى عدالة، تلك هي الشريعة، التي هي كخلاصة جميع قوانين العلوم وكأنها حصيلة تجارب كثيرة، بل لايبلغ ادراكها الذكَاء مهما توسع، تلك الشريعة متوجهة الى الازل، معلنة انها آتية من الكلام الازلي، ومحققة سعادة الدارين.
فان انصفت تجد ان هذا ليس في طوق بشر، في ذلك الزمان، بل خارج عن طوق النوع البشري قاطبة. الاّ اذا افسدت اوهامٌ سيئة بالتغلغل في الماديات طرف فطرتك المتوجهة نحو هذه الحقائق.
رابعتها: كما ذكر في المقدمة العاشرة وكما سيأتي في جواب نقطة الاعتراض كالاتي: ان الارشاد انما يكون نافعاً اذا كان على درجة استعداد افكار الجمهور الاكثر، والجمهور باعتبار الكثرة الكاثرة منه عوام والعوام لايقتدرون على رؤية الحقيقة عريانة، ولايستأنسون بها الاّ بلباس خيالهم المألوف. فلهذا صورت الشريعة تلك الحقائق بمتشابهات وتشبيهات فابهمت واطلقت في مسائل العلوم الكونية، التي يعتقد الجمهور بالحس الظاهري خلاف الواقع ضرورياً. وذلك لعدم انعقاد المبادي والوسائط.. ولكن مع ذلك اومأت الى الحقيقة بنصب أمارات.