لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.
ثم انه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولت الحاجات غير الضرورية الى مايشبه الضرورية، اذ بينما كان الانسان محتاجاً الى أربعة اشياء في حياة البداوة والبساطة اذا به في هذه المدنية يحتاج الى مئة حاجة، وهكذا أردَته المدنية فقيراً مدقعاً.
ثم، لأن السعي والعمل لايكفيان لمواجهة المصاريف المتزايدة، انساق الانسان الى مزاولة الخداع والحيلة وأكل الحرام. وهكذا فسد أساس الاخلاق.
وبينما تعطي هذه المدنية للجماعة والنوع ثروة وغنى وبهرجة اذا بها تجعل الفرد فقيراً محتاجاً، فاسد الأخلاق.
ولقد قاءت هذه المدنية وحشية فاقت جميع القرون السابقة.
وانه لجدير بالتأمل، استنكاف العالم الاسلامي من هذه المدنية، وعدم تلهفه لها، وتحرجه من قبولها، لأن الهداية الالهية التي هي الشريعة تعطي خاصية الاستقلال والاستغناء عن الآخرين، ولا يمكن ان تطعّم هذه الشريعة بالدهاء الروماني ولا ان تمتزج معها ولا يمكن ان تبلعها أو ان تتبعها.
ان دهاء الرومان واليونان - أي حضارتيهما - وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الاحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية او ادماجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لايقبلان الامتزاج، بل انهما يعيشان الآن بروحهما بانماط متنوعة واشكال مختلفة.
فلئن كان التوأمان، مع وجود عوامل المزج والدمج والاسباب الداعية له، لم يمتزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي اساسها دهاء روما! لا يمكن بحال من الأحوال ان يمتزجا أو يهضما معاً.
قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟
قلت: أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً ايجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.