فالذي يعرف ماهية أنا على هذا الوجه، ويذعن له ويعمل بمقتضاه يكون من الذين يبشرهم الله تعالى بقوله ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ ويكون قد ادى بحقها، وعرف بمنظار أنا ماهي الكائنات وما وظيفتها؟ ويقيس سائر المعلومات التي يتلقاها على انا، فتكون علوماً فيها النور والحكمة لاظلام ولا عبثية. وحينما ادت انا وظيفتها بهذا الطرز تترك ربوبيتها الموهومة ومالكيتها الفرضية التي هي واحد قياسي وتقول: له الملك وله الحكم واليه ترجعون. فتلبس ثوب عبوديتها وتصعد إلى رتبة الكمال والجمال.
واذا نسيت انا حكمة الخلقة وتركت وظيفتها الفطرية ونظرت إلى نفسها بالمعنى الاسمى واعتقدت انها مالكة فحينئذ تخون الامانة وتدخل تحت قول الله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾. فجميع انواع الشرك والشرور والضلالات تتولد من انا من هذه الجهة التي خافت السموات والارض والجبال منها وفزعت من شركها الموهوم.
نعم أنا الف دقيقة وخيط رقيق وخط موهوم. الا انه اذا لم تعلم ماهيتها تنمو وتزيد من وراء الستار، وبمرور الزمان تستغلظ فتنتشر في جميع انحاء الجسم فتصير داهية عظيمة تبلع الانسان. ويصير الانسان بجميع لطائفه كأنه عبارة عن انا. وبعد ذلك تمدها انانية النوع، وانانية القومية فتستند اليهما وتقوى وتعود شيطاناً تبارز صانعها.. ثم تقيس الناس وكل شيء على نفسها فتقسم ملك الله تعالى عليها وتقع في شرك عظيم وينجلى فيها معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
نعم كما انه لابد لمن يأخذ خلسة مقدار اربعين فاساً من مال الدولة – ان يعطى فلساً لكل من الذين حضروا هذه الوقعة حتى يسيغها؛ فكذلك من يقول انا مالك نفسي لابد من ان يعتقد ويقول: كل شيء مالك لنفسه. فانا التي هي في هذه الحالة وان عرفت الوف الفنون فهي في جهالة لاتشبهها اية جهالة. وذلك ان ما تتلقفه الحواس والاذهان من معارف الكون حينما لم يجد في النفس ما يصدقه ويسلط عليه اضواءه ويمده بالحياة يعد ظلاماً دامساً ويتلون بالوان مافي النفس فتنصبغ الحكمة بصبغة الصدف والعبث. لان لون انا في هذه الحالة هو لون الشرك وتعطيل الكون عن الصانع وانكار الوهية الله تعالى. والكون وان كان مملوءاً بمصابيح الهدى الا ان النقطة السوداء التي هي في انا تطفىء تلك المصابيح امام الانظار. ولقد شرحنا في (المقال الحادي عشر) كيف ان الماهية الانسانية وانانيتها ميزان دقيق وفهرس تام وخريطة مفصلة ومفكرة للكون شرحناه شرحاً وافياً فليراجع.