وشوقاً، فينصت الى همس أصواتها الحزينة اللذيذة، وهي تقول بلسان الحال والمقال: (ألا تنظر إلينا؟ ألا تطالعنا ؟.) فينظر بلهفة حائرة ويرى:
ان البحار التي تتماوج بحيوية وتتلاطم بشدة دوماً، والتي من شأنها التشتت والانسكاب والاغراق، قد أحاطت بكرة الارض، فهما تُسيَّران معاً في منتهى السرعة وتجريان في سنة واحدة ضمن دائرة مقدارها خمس وعشرون ألف سنة. وعلى الرغم من كل هذا فهي لاتتفرق ابداً ولاتنسكب مطلقاً ولاتستولي على جارتها اليابسة، فلابد من انها تسكن وتسيّر وتحفظ بأمر من له القدرة المطلقة، والعظمة المطلقة.
ثم ينظر الى جوف البحر فيرى علاوة على لآلئه المشعة التي هي في غاية الجمال والزينة والانتظام، فان اعاشة آلاف الحيوانات المتنوعة وادارتها وتعيين مواليدها ووفياتها تجري في منتهى الانتظام والاتقان. وأن مجئ ارزاقها ونشوء اقواتها من رمل بسيط ومن ماء اجاج، ميسور وكامل بحيث يثبت بداهة أنه لايتم إلاّ بادارة القدير ذي الجلال، واعاشة الرحيم ذي الجمال.
ثم ينظر ذلك المسافر الى الانهار فيرى ان فيها من المنافع والمصالح ولها من الخدمات والوظائف وما تنتجه من مصاريف وما ترده من موارد محسوب بحكمة واسعة، وبرحمة عظيمة بحيث تثبت بداهة ان جميع الجداول والترع والينابيع والسيول والانهار العظيمة تنبع وتجري من خزينة الرحمن ذي الجلال والاكرام. بل انها تُخزن وتدّخر ادخاراً خارقاً للمألوف، فتصرف وتجري جرياً فوق المعتاد حتى ورد في الحديث الشريف ما معناه: أن أنهاراً اربعة تجري من الجنة(1).
(1) عن ابي هريرة قال: قال رسول الله y (سَيْحان وجَيحان والفرات والنيل كلٌّ من انهار الجنة). _ مسلم: كتاب الجنة:26، وفي الخطيب البغدادي ((ليس من الجنة في الارض شئ إلاّ ثلاثة اشياء: غرس العجوة والحجر وأواقٍ تنزل في الفرات كلَّ يوم بركة من الجنة)).وانظر فيض القدير 5/381.