الفصل السادس
في منفى قسطموني
المدرسة النورية الثانية
1936-1943م
مدرسة نورية ثانية:
عندما ساقوني منفياً إلى قسطموني بعد أن أكملت سنة محكوميتي في سجن (اسكي شهر)(1) و أنا الشيخ الهرم، مكثت موقوفاً هناك في مركز الشرطة حوالي ثلاثة اشهر. ولا يخفى عليكم مدى الأذى الذي يلحق بمثلي في مثل هذه الأماكن، وقد انعزل عن الناس، ولا يتحمل البقاء حتى مع أصدقائه الأوفياء، ولا يطيق أن يبدل زيّه الذي اعتاد عليه.(2)
فبينما كان اليأس يحيط بي من كل جانب، إذا بالعناية الإلهية تغيث شيخوختي، إذ اصبح أفراد الشرطة المسؤولون في ذلك المخفر بمثابة أصدقاء أوفياء، حتى كانوا يخرجونني متى شئت للاستجمام والتجوال في سياحة حول المدينة وقاموا بخدمتي كأي خادم خاص، فضلاً عن أنهم لم يصروا عليّ بلبس القبعة مطلقاً.
ثم دخلتُ المدرسة النورية التي كانت مقابل ذلك المخفر في قسطموني(3) وبدأت بتأليف الرسائل، وبَدأ كل من (فيضي وأمين وحلمي وصادق ونظيف وصلاح الدين) وأمثالهم من أبطال النور(4
------------------------
(1) في 27/ 3/ 1936
(2) حيث اُكره الناس على لبس القبعة والزي الأوروبي بعد صدور (قانون القيافة).
(3) بيت صغير يقع أمام المخفر مباشرة، لكي يكون تحت المراقبة الدائمة، كان البيت مؤلفاً من طابقين: الطابق الأرضي مخزن للوقود، أما الطابق الثاني فكان مكوناً من غرفتين، وكان بديع الزمان يدفع إيجار هذا البيت بنفسه.
(4) هؤلاء الطلاب تعارفوا مع الأستاذ النورسي وعملوا لرسائل النور بعد سنتين من نفي الأستاذ الى قسطموني أي سنة 1938 إلا أمين چاير وهو من اشراف العشائر الكردية في الولايات الشرقية، و من بين المنفيين الى قسطموني، نصب له زاوية صغيرة لعمل الشاي للناس فاشتهر بـ"امين چايجي" هداه إخلاصه الى التعرف على الأستاذ النورسي. كان المحور في نشر الرسائل.. لازم الأستاذ النورسي في اغلب اوقاته في قسطموني. ثم سجن معه في سجن دنيزلي، توفي رحمه الله في "وان" عام 1967 حيث مسقط رأسه. وقد تعارف مع الأستاذ بهذه الوسيلة:
"في أحد الايام وقع بصري على رجل عليه ملامح الوقار والعلم، فتوجهت نحوه وبعد السلام عليه سألته:
- من اين انت؟ أجابني:
- لا تقترب مني فرجال الشرطة يراقبونني، أخشى ان يصيبك منهم أذى.
وكان ما في هذا اللقاء من صدق واخلاص كافيين في جذبي اليه، والبحث عنه في كل مكان في المدينة، حتى وجدته في مركز الشرطة الكائن في السوق. وعرفت بعد ذلك انه يصعد احياناً الى قلعة (قسطموني) واحد افراد الشرطة يتعقبه.
فذات يوم جاءني شرطي ودعاني الى القلعة حيث الأستاذ هناك، وعندما التقينا قال للشرطي:
- اخي، ان هذا الرجل من معارفي، فلو سمحت لنا ان نتحدث معاً.. ابتعد الشرطي عنا وبدأ الأستاذ يشرح لي وضعه وظروفه الصعبة واعتلال صحته من اثر السم الذي دس له في الطعام. ثم قال انه محتاج الى شئ من السكر والشاي وما الى ذلك من الحوائج. وقال:
- انهم لا يسمحون لأحد من الناس ان يراني. فأنا أريد أن أقول للمفوض بأنني ارغب في بيع فراشي لكي يكون هذا البيع وسيلة اتصال بيني وبينك الى ان تحل هذه المعضلة. فمد يده الى جيبه واخرج ثلاث ليرات ذهبية ووضعها في يدي وقال:
- ان هذه الليرات الذهبية من بقايا ايام الحرب العالمية الأولى، كنت احتفظ بها منذ سنوات طويلة. فخذها واصرفها حسب احتياجاتي. قلت له:
- ان حالتي المعاشية جيدة ولا احتاج الى نقودك. فأجابني بقوله:
- انني لا اقبل شيئاً دون مقابل.
فأخذت القطع الذهبية وبدلت إحداها في السوق الى النقود المتداولة الحالية، وفي اليوم التالي ناداني المفوض وقال: ان هذا الأستاذ يريد ان يبيع فراشه. فهل تشتري فراشه؟ فأجبته: نعم.
ثم قال: كيف تعرف هذا الرجل؟ ومن اين؟ اجبت: انه أحد معارفي السابقين وكثيراً ما كان يرى بعضنا البعض الآخر.
وبعدما أبديت رغبتي واستعدادي لشراء الفراش اخدني الشرطي الى المركز لمقابلة الأستاذ وهو في الطابق الثاني. فرأيت الفراش وقدّرته بثمن خمس وعشرين ليرة واجّرته للاستاذ مرة أخرى فقلت:
- على شرط أن يدفع لي ثمن المبيت عليه يومياً.
وهكذا اصبحت بواسطة هذا الفراش اذهب الى المركز يومياً بحجة استلام الاجرة، فآخذ معي ما يحتاجه الأستاذ من ضروريات" ذكريات عن سعيد النورسي/46 عن Son sahitler 2/96.