السيرة الذاتية | الفصل الثالث | 200
(200-215)

الفصل الثالث
الهجـر الجميـل
1923م (1340 هـ)
التوجه إلى (وان):(1)
توجهت إلى مدينة (وان). وهناك قبل كل شئ ذهبت إلى زيارة مدرستي المسماة بـخورخور فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما احرقوا بقية البيوت الموجودة في (وان) أثناء الاحتلال الروسي.. صعدت إلى القلعة المشهورة في (وان) وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تحتها مدرستي الملاصقة بها تماماً، وكانت تمرّ من أمامي أشباح أولئك الأصدقاء الحقيقيين والاخوة المؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة اصبح قسم من أولئك الأصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين، فلم أتمالك نفسي من البكاء والنحيب.. صعدت إلى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو المنارتين ومدرستي تحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الخيال إلى ما يقرب من ثماني سنوات خلَتْ وجال بي في ذلك الزمان، لما للخيال من قوة ولعدم وجود ما يحول بيني وبين ذلك الخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، إذ كنت وحيداً منفرداً.
شاهدت تحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثماني سنوات حتى أنني كلّما كنت افتح عيني أرى كأن عصراً قد ولّى ومضى بأحداثه. رأيت ان مركز المدينة المحيطة بمدرستي -الذي هو بجانب القلعة- قد أحرق من أقصاه إلى أقصاه ودمّر تدميراً كاملاً. فنظرت إلى هذا المنظر نظرة حزن وأسى.. إذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ما كنت فيه وبين ما أراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه المدينة.. كان أغلب الذين يعمّرون هذه البيوت المهدّمة أصدقائي، وأحبّة أعزّاء عليّ.. فلقد توفّى قسم منهم بالهجرة من المدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جميعاً برحمته. حيث دُمّرت بيوت المسلمين في المدينة كليّاً ولم تبق الاّ محلة الأرمن، فتألمت من الأعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

(1) وذلك في مايس سنة 1923م

لايوجد صوت