السيرة الذاتية | الفصل الثالث | 203
(200-215)

مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لا يمكن أن يُصبر عليها، ولا يمكن أن تقاوم، وهي مؤلمة ومحرقة إلى هذه الدرجة، فلا شك أن الموت افضل من هذه الحياة، ويرجح على مثل هذه الأوضاع التي لا تطاق.. لذا ولّيت وجهي سارحاً بنظري إلى الجهات الست.. فما رأيت فيها الاّ الظلام الدامس، فالغفلة الناشئة من ذلك التألم الشديد والتأثر العميق أرتنى الدنيا مخيفة مرعبة، وأنها خالية جرداء وكأنها ستنقض على رأسي. كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركن شديد أمام البلايا والمصائب غير المحدودة التي اتخذت صورة أعداء ألدّاء. وكانت تبحث ايضاً عن نقطة استمداد أمام رغباتها الكامنة غير المحدودة والتي تمتد إلى الأبد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوان والتسرّي من الهموم والأحزان المتولدة من الفراقات والإفتراقات غير المحدودة والتخريبات والوفيات الهائلة، إذا بحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم المعجز وهي: ﴿سبَّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيزُ الحكيم  لهُ مُلك السموات والأرض يحيي ويُميت وهو على كلِّ شئٍ قديرٌ﴾(الحديد:1- 2) تتجلى أمامي بوضوح وتنقذني من ذلك الخيال الأليم المرعب، وتنجيني من ألم الفراق والافتراق، فاتحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُ إلى الأثمار المعلقة على الأشجار المثمرة وهي تنظر إلى مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: (لا تحصرنَّ نظرك في الخرائب وحدها.. فهلاّ نظرت إلينا، وانعمت النظر فينا..).
نعم ان حقيقة هذه الآية الكريمة تنبّه بقوة مذكّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك إلى هذا الحدّ سقوط رسالة عامرة شيّدت بيد الإنسان الضيف على صحيفة مفازة وان، حتى اتخذت صورة مدينة مأهولة؟ فلِمَ تحزن على سقوطها في السيل الجارف المخيف المسمّى بالاحتلال الروسي الذي محا آثارها واذهب كتابتها؟ إرفع بصرك إلى الباري المصوّر وهو ربّ كل شئ ومالكه الحقيقي، فناصيته بيده، وان كتاباته سبحانه على صحيفة (وان) تُكتب مجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وان ما شاهدته من أوضاع في الغابر والبكاء والنحيب على خلو تلك الأماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة إنما هو من الغفلة عن مالكها الحقيقي، ومن توهم الإنسان -خطأً- انه هو المالك لها، ومن عدم تصوره انه عابر سبيل وضيف ليس الاّ..

لايوجد صوت