(لا تنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكّارة.. فانية..).
ورأيت كذلك أن الإنسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن ابكي بعينيّ لشيخوختي -باعتبار وجودي- كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بحاجة إلى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة الشبيهة بالميتة.
لقد ورد في الحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح: (لِدوا للموت وابنوا للخراب)(1) كنت اسمع هذه الحقيقة، اسمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فان خيالي منذ عشرين سنة يذرف الدموع ايضاً كلّما مرّ على ذلك الحال. نعم ان دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمّرت آلاف السنين، واكتهال المدينة التي تحتها خلال ثماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانمائة سنة، ووفاة مدرستي -اسفل القلعة- التي كانت تنبض بالحياة والتي كانت مجمع الأحباب.. تشير إلى وفاة جميع المدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة المعنوية لجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد أصبحت شاهدة قبرها. ورأيت ان طلابي -رحمهم الله جميعاً- الذين كانوا معي في تلك المدرسة -قبل ثماني سنوات- وهم راقدون في قبورهم، رأيتهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والحزن حتى بيوت المدينة المدَمَّرة، بل حتى جدرانها المنهدّة وأحجارها المبعثرة.
نعم إنني رأيت كُل شئ وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت أنني لا أستطيع أن اتحمّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب إليهم في قبورهم او عليّ أن انسحب إلى مغارة في الجبل منتظراً اجلي، وقلت مادام في الدنيا
-------------------------
(1) البيهقي في الشعب من حديث عن ابي هريرة والترمذي مرفوعاً، ابو نعيم في الحلية عن ابي ذر مرفوعاً، واحمد في الزهد عن عبدالواحد قال: قال عيسى عليه السلام، فذكره (الدرر المنتثرة) وانظر كشف الخفاء (2041).