كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره ...- رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلاّ أنني لم اكن افهم معناها تماماً:
لولا مفارقةُ الأحباب ما وجَدَتْ لها المنايا إلى أرواحنا سبُلاً(1)
أي أن اكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.
نعم، انه لم يؤلمني شئ ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغم والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة تكفي لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت بعيني لوحة الفراق الحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمّر بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..
عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الأماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فأصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة أمام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يخدعون أنفسهم، فالوضع هذا يبيّن بداهة ان الدنيا لا محالة فانية، وان الإنسان فيها ليس الاّ عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله أهل الحقيقة:
(1) لأبي طيب المتنبي.