السيرة الذاتية | الفصل الثالث | 205
(200-215)

السياسة بل أنستني حتى التفكر فيها. والاّ فان تأريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما أراه حقاً. ثم ممَّ يكون خوفي؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل، إذ ليس لي أهل وأولاد أفكر فيهم، ولا أموال أفكر فيها، ولا أفكر في شرف الأصالة والحسب والنسب. ورحم الله من أعان على القضاء على السمعة الاجتماعية التي هي الرياء والشهرة الكاذبة، فضلاً عن الحفاظ عليها..
فلم يبق الاّ أجلي، وذلك بيد الخالق الجليل وحده. ومن يجرأ أن يتعرض له قبل أوانه. فنحن نفضل اصلاً موتاً عزيزاً على حياة ذليلة.
ولقد قال أحدهم مثل سعيد القديم؛
ونحن أناسٌ لا تَوَسّطَ بَيْننا لنا الصَدْرُ دونَ العالَمينَ أو القبرُ(2)
إنما هي خدمة القرآن تمنعني عن التفكر في الحياة الاجتماعية السياسية وذلك:
ان الحياة البشرية ما هي إلاّ كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان، ان طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم إلى مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في أوحال ملوثة منتنة.
ولكن قسماً منها يمضي في طريق آمنة.
وقسم آخر قد وجد بعض الوسائل لتنجيه -قدر المستطاع- من الوحل والمستنقع.
وقسم آخر وهم الأغلبية يمضون وسط ظلام دامس في ذلك المستنقع الموحل المتسخ.
فالعشرون من المائة من هؤلاء يلطخون وجوههم وأعينهم بذلك الوحل القذر ظناً منهم انه المسك والعنبر، بسبب سُكرهم. فتارة يقومون وأخرى يقعون وهكذا يمضون حتى يغرقون.
أما الثمانون من المائة، فهم يعلمون حقيقة المستنقع ويتحسسون عفونته وقذارته الاّ انهم حائرون، إذ يعجزون عن رؤية الطريق الآمنة.
----------------------

(2) لأبي فراس الحَمداني.

لايوجد صوت