وهكذا فان ترك السعي لحياة أبدية، وترك العمل لنور الإيمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة إنما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطر إلى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة. بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.
أما إن قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والإيمان عن السياسة؟
فأقول: ان الحقائق الإيمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الألماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا ان يجعلنا منحازين إلى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو إليه دعاية سياسية لجلب الاتباع؟ بمعنى انهم ينظرون إلى تلك الجواهر النفيسة انها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.
فيا أهل الدنيا! لِمَ لا تدعوني وشأني، وتضايقونني بطرق شتى؟(1)
قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟.
الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته أدراج الرياح، إذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وان التدخل فيها فضول -بالنسبة اليّ- فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وان اغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون ان يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة او معارضاً لها، فان كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة اليّ فضول ولا يعنيني بشئ، حيث انني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى -عندئذٍ- لممارستي الأمور السياسية وهم ليسوا بحاجة اليّ لأتدخل فيها. واذا دخلت ضمن المعارضة او السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان أتدخل إما عن طريق الفكر او عن طريق القوة. فان كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة اليّ ايضاً، لان الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا
--------------------------
(1) المكتوبات/77-79