ان ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة، فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام وضحّت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء، لذا لا يستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام، الأمة التركية وأنا ايضاً لا استله عليهم).(3)
[وعلى الرغم من الموقف الواضح للاستاذ النورسي من الثورة إعتقلته الحكومة مع رؤساء العشائر والمشايخ وأصحاب النفوذ في الولايات الشرقية، حتى إن لم يكن لهم أي ضلع أو أي دور في هذه الحركة ونفتهم إلى غربي الأناضول]..
ومع هذا داهمت المفرزة العسكرية المغارة التي كان الأستاذ بديع الزمان منـزوياً فيها للعبادة، وأظهر قائدها تصرفاً قاسياً وخشناً تجاه الأستاذ، وكان رد فعل الأستاذ رداً قوياً وشجاعاً، وتكهرب الجو فجأة. وسرعان ما أخذوه معهم. وبعد ان مشوا مدة أقتربَ منهم بعض طلاب الأستاذ وبعض الأهلين وتحدثوا معه باللغة المحلية (بالكردية). وتوسلوا إليه ألاّ يذهب مع الجندرمة مبدين استعدادهم لتهريبه إلى مكان آخر، أو إلى أي بلد إسلامي آخر، ولكنه لم يقبل وقال لهم بأنه يذهب مع المفرزة بكامل رغبته، وان الجنود هم بمثابة طلابه، ونصحهم بالرجوع إلى بيوتهم بسكون ولا داعي إلى القلق.(1) وهكذا حال دون حدوث مجابهة بين الأهالي والحكومة تراق فيها الدماء بسببه.(2)
----------------------
(3) T.Hayat, ilk hayatı والرسالة هذه محفوظة في محافظ محكمة الاستقلال في ملف الشيخ سعيد.( ب/531).
(1) من مذكرات "زيير گوندوز آلب" ب1 / 567، ش / 273
(2) "كان ترحيل المنفيين في 25/ 2/ 1925 وكان خط السير كما يأتي: اتجهت القافلة من مدينة "وان" الى "أرجش" ومنها الى "باتنوس"، حيث استراحت هناك ما يقارب أربعة أيام ثم توجهت الى مدينة "آغري" وبقيت فيها يوماً واحداً، ومنها الى "ارضروم" حيث قضت فيها اسبوعاً واحداً وتوجهت منها الى مدينة "طرابزون" وقضت فيها عشرين يوماً، ثم اتجهت الى "استانبول" بالباخرة ووصلتها في 15/ 4/ 1925 ومكثت فيها (20 - 25) يوما".
ويسرد (مصطفى آغريلى) أحد الجنود الذين اشتركوا في حراسة قافلة المنفيين هذه ذكرياته عن هذه الرحلة فيقول: "عندما كنت أؤدي وظيفتي في الخدمة العسكرية في مدينة (وان) كنت أسمع عن اسم الأستاذ بديع الزمان وعن شهرته كثيراً، فالجميع كانوا يتحدثون عنه، مما جعلني في شوق كبير لرؤيته. وعندما كلفت بالاشتراك في حراسة قافلة المنفيين كان ذلك فرصة كبيرة لرؤيته.
عندما خرجت القافلة كان الموسم شتاءاً والثلج يغطي كل مكان، وكان في القافلة ما يقارب (70 - 80) زحافة تجرها الخيول أو الثيران... في المساء وصلنا الى احدى القرى فاستقبلنا أهلها عن بكرة أبيهم.. كان قائد الرحلة في ورطة، إذ كيف يستطيع ان يبيت في هذه القرية الكردية وان يحافظ ويحرس ويمنع هروب أي شخص؟ لم يكن من الممكن ان يوزع المنفيين على بيوت القرية، وأخيراً قرر جمعهم في مكان واحد لتسهل حراستهم.... ذهبنا الى غرفة صغيرة لا تسع إلاّ لمنام شخصين، وكان القرويون يحومون حولنا مبدين حفاوة كبيرة بنا.. وقد أحاطوا بنا من كل جانب، وكأنهم ينتظرون اشارة واحدة من "بديع الزمان" ولكنه ما كان يسمح ان يحدث أي شيء. وفي المساء جلبوا لنا أصنافاً متعددة من الأطعمة، ولكن الأستاذ قال بانه مريض لذا لم يمد يده للأكل، ولكنه دعاني للأكل، ثم صلينا العشاء وبعدها فرشوا له فراشاً، وفراشاً لي قرب الباب..
بعد حين انتبهت على صوت حركة، فتحت عيني فرأيته وهو يخرج وبيده فانوس زيتي حيث توضأ في الباحة المغطاة بالثلج، ثم وقف للصلاة، فقضى الليلة في الصلاة والعبادة.
التفت اليَّ عندما أحس انني يقظان وقال لي: "لايزال أمامك متسع من الوقت للنوم. نحن على المذهب الشافعي نستيقظ مبكرين، أما أنتم فعلى المذهب الحنفي وتستطيع ان تؤدي الصلاة بعد حين.. ولكنه في الحقيقة لم يكن قد استيقظ مبكرآً لانه لم ينم أصلاً، اما أنا فلم اعد الى النوم بل قمت وتوضأت وصليت الفجر معه..
كانت هناك مدفأة في الغرفة.. قام الأستاذ وغلّى شيئاً من الماء عليها، وكان معه زنبيل صغير، أخرج منه بيضة واحدة وسلقها.. كانت قد مرت ساعات طويلة منذ خروجنا من مدينة "وان"، ولأول مرة كان يتناول طعاماً في هذا الفطور.. ثم أخرج أدوات الحلاقة وحلق ذقنه.. لا أتذكر اسم هذه القرية.. كنا نبيت على الدوام في القرى التي تقع على طريق سيرنا.. كنت أراقبه عن كثب فرأيته يهتم بالنظافة والحلاقة والعبادة اهتماماً كبيراً، ولم يكن يتناول طعام أحد". Son Şahitler 1/136.