محاكمات | المقدمة الاولى | 37
(1-90)

لما عجز الانسان بنظره السطحي ان يتذوق ما في جفان الكائنات وصحونها من غذاء روحي مغطى بغطاء الالفة، سئم من لعق الجفان ولَحْس الغطاء. ولم يفده سوى عدم القناعة، والتلهف الى خوارق العادات والرغبة في الخيالات، مما ولّد لديه الرغبة في المبالغة للتجدد أو الترويج.. تلك المبالغة شبيهة بكرة الثلج المتدحرجة من أعلى قمة الجبل، كلما تدحرجت كبرت، فالكلام المتدحرج أيضاً من ذروة الخيال الى اللسان ومنه الى لسان ولسان، تُشتت حقيقته الذاتية، الاّ أنه يجمع حوله خيالات من كل لسان بميل المبالغة، فيكبر ويكبر حتى لايسعه القلب بل الصماخ بل حتى الخيال، ثم يجئ النظر بالحق فيجرّده من توابعه، ويرجعه عارياً مجرداً الى أصله، فيظهر سر ﴿جاء الحق وزهق الباطل﴾.
حكاية جرت في هذه الايام تكون مثالاً على هذا:
ان أساس مسلكي منذ أيام صباي - ولا فخر - ازالة الشبهات التي تلوث حقائق الاسلام سواءً بالافراط ام بالتفريط، وصقل تلك الحقائق الالماسية. والشاهد على هذا تاريخ حياتي في كثير من حوادثه.
ففي هذه الايام ذكرت مسألة بديهية كـ"كروية الارض"، وطابقت عليها مايوافقها ويتعلق بها من مسائل دينية، دفعاً لاعتراضات الاعداء وازالة لشبهات المحبين للدين. كما سيأتي مفصلاً في "المسائل".
ثم ظهرالمغرمون بالظاهر المعتادون على الخيالات المهولة، وكأن عقولهم لا تقبل هذه المسألة، الاّ ان السبب الاساس غير هذا بلا شك، فتصرفوا تصرفات جنونية، كمن يريد ان يجعل النهار ليلاً باغماض العين، او يطفئ الشمس بالنفخ! وفي ظنهم كأن الذي يحكم بكروية الارض يخالف كثيراً من مسائل الدين. فتذرعوا بهذا وافتروا فرية كبيرة، ولم يبق الامر في هذا الحد بل تجاوز الى تضخيم الفرية حيث وجدوا لها جواً ملائماً في الاذهان المرتابة، بل ضخموها الى حد كبير كووا بها كبد اهل الدين. وأيّسوا اهل الحمية في رقي الاسلام.
ولكن كان هذا درساً عظيماً لي، اذ ايقظني الى: ان الصديق الجاهل يمكنه ان يضرّ الدين بمثل مايضرّ به العدو، ولهذا فلقد كنت منذ بداية الكتاب اتوجّه الى حيث يكون العدو، أقطع بالسيف الالماسي الذي في اليد بخسَهم حق

لايوجد صوت