وكذلك فان (بيت كل انسان) هو دنياه الصغيرة بل جنته المصغرة فان لم يكن (الايمان بالآخرة) حاكما ومهيمنا في سعادة هذا البيت لوجد كل فرد من افراد تلك العائلة اضطرابا اليما، وعذابا شديدا في علاقة بعضهم ببعض حسب درجات رأفته ومحبته لهم فتتحول تلك الجنة الى جحيم لايطاق، وقد يخدر عقله باللهو والسفه المؤقت فيكون مَثَلهُ في هذا كمثل النعامة اذا رأت الصياد تخفي رأسها في الرمل كيلا يراها الصياد وهي عاجزة عن الفرار والطيران، فهو كذلك يغمر رأسه في الغفلة، لئلا يراه الموت والزوال والفراق، ملغيا شعوره موقتا ببلاهة، وكأنه وجد علاجا لما يُعانيه !
فالوالدة مثلا - التي تضحي بنفسها لأجل ولدها - كلما رأت ابنها يتعرض للخطر ارتعشت هلعا وخوفا عليه. والاولاد كذلك عندما لايستطيعون انقاذ ابائهم أو اخوانهم من المصائب التي لاتنقطع، يظلون في قلق دائم ويحسون خوفا مستمرا. فقياسا على هذا فان حياة تلك العائلة، التي يُظن انها حياة سعيدة، تفقد سعادتها في هذه الدنيا المضطربة الزائلة حيث لاتعطي الرابطة بين الافراد، ولاعلاقة القربى فيما بينهم - ضمن حياة قصيرة جدا - الصداقة الحقيقية والوفاء الخالص والاخلاص الكامل، والخدمة والمحبة الصافيين، بل تتصاغر الاخلاق وتنكمش بنسبة قصر الحياة نفسها، وربما تسقط وتنعدم كليا.
ولكن ما ان يحل (الايمان بالآخرة) في ذلك البيت حتى ينور ارجاءه مباشرة ويستضئ، لان علاقة القربى والرأفة والمحبة التي تربطهم لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جدا، بل تقاس على وفق علاقات تمتد الى خلودهم وبقائهم في دار الآخرة والسعادة الابدية، فيقوم - عندئذ - كلُ فرد باحترام خالص تجاه الآخرين، ويوليهم محبة صافية، ويظهر رأفة صادقة، ويبدي صداقة وفية، صارفاً النظر عن التقصيرات. فتتعالى الاخلاق وتسمو، وتبدأ السعادة الانسانية الحقة بالتألق في ذلك البيت.
وقد بين هذا المضمون في رسائل النور. اكتفينا هنا بما سلف.