اللمعات | اللمعة السادسة والعشرون | 411
(384-464)

أشحتُ نظري عن الخارج وانعمت النظر في المقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي:
(ان هذه المقبرة المحيطة بك تضم مائة استانبول! حيث ان استانبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى انت وحدك من حكم الحاكم القدير الذي افرغ جميع اهالي استانبول هنا، فانت راحل مثلهم لا محالة..!).
غادرت المقبرة وانا احمل هذا الخيال المخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في محفل جامع ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه والتي كنت ادخلها مراراً في السابق فاستغرقت في التفكير في نفسي: إنما انا ضيف! وضيف من ثلاثة اوجه؛ اذ كما انني ضيف في هذه الغرفة الصغيرة، فانا ضيفٌ كذلك في استانبول، بل انا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى المسافر ان يفكر في سبيله ودربه.
نعم، كما انني سوف اخرج من هذه الغرفة واغادرها، فسوف اترك استانبول ذات يوم واغادرها، وسوف اخرج من الدنيا كذلك.
وهكذا جثمت على قلبي وفكري وانا في هذه الحالة، حالة أليمة محزنة مكدّرة. فلا غرو انني لا أترك احباباً قليلين وحدهم، بل سأفارق ايضاً آلاف الاحبة في استانبول، بل سأغادر استانبول الحبيبة نفسها وسأفترق عن مئات آلالاف من الاحبة كما افترق عن الدنيا الجميلة التي ابتلينا بها.
ذهبتُ الى المكان المرتفع نفسه في المقبرة مرة اخرى، فبدا لي اهالي استانبول، جنائز يمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الافلام السينمائية، فقد كنت اتردد اليها احياناً للعبرة! فقال لي خيالي: مادام قسم من الراقدين في هذه المقبرة يمكن ان يظهروا متحركين كالشخوص السينمائية، ففكر في هؤلاء الناس كذلك انهم سيدخلون هذه المقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

لايوجد صوت