وبينما كنت اتقلب في تلك الحالة المحزنة المؤلمة اذا بنور من القرآن الحكيم وبارشاد من الشيخ الكيلاني (قدس سرّه) يقلب تلك الحالة المحزنة ويحولها الى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكرني النور القادم من القرآن الكريم ونبهني الى ما يأتي:
كان لك صديق أو صديقين من الضباط الاسرى عند اسرك في (قوسترما) في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان الى استانبول. ولو خَيرك احدهما قائلاً: أتذهب الى استانبول أم تريد ان تبقى هنا؟. فلا جرم انك كنت تختار الذهاب الى استانبول لو كان لك مسكة من عقل، بفرح وسرور حيث ان تسعمائة وتسعة وتسعين من الف حبيب وحبيب لك هم الآن في استانبول، وليس لك هنا الاّ واحد او اثنان، وهم بدورهم سيرحلون الى هناك. فالذهاب الى استانبول بالنسبة لك اذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت اليها، ألم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نجوتَ من بلد الاعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت استانبول الزاهية الجميلة، كأنها جنة الدنيا!. وهكذا الامر حيث ان تسعاً وتسعين من مائة شخص ممن تحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتحلوا الى المقبرة. تلك تبدو لك موحشة مدهشة، ولم يظل منهم في هذه الدنيا الاّ واحد او اثنان، وهم في طريقهم اليها كذلك. فوفاتك في الدنيا اذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وانما هي وصال ولقاء مع اولئك الاحبة الاعزاء.
نعم ان اولئك – أي الارواح الباقية – قد تركوا مأواهم وعشهم المندرس تحت الارض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالم البرزخ.
وهكذا ذكرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الحقيقة اثباتاً قاطعاً كلٌ من القرآن الكريم، والإيمان، بحيث مَن لم يفقد قلبه وروحه، او لم تغرقه الضلالة لابد ان يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زين هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتحد وبأشكال آلائه التي لاتُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الاشياء