اللمعات | اللمعة السادسة والعشرون | 408
(384-464)

على أي حال.. فقد اصبح (عجزي) و (ضعفي) في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب الى عتبة الرحمة الإلهية، وشفيعين لدى الحضرة الإلهية، حتى انني لا ازال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد ايام قليلة. واقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشياً على الاقدام الاّ في عام كامل، ولم اكن ملماً باللغة الروسية. فلقد تخلصت من الاسر بصورة عجيبة محيرة، بفضل العناية الإلهية التي ادركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت استانبول ماراً ب(وارشو) و (فينا). وهكذا نجوت من ذلك الاسر بسهولة تدعو الى الدهشة، حيث اكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيرين، بحيث لم يكن لينجزها اشجع الاشخاص وأذكاهم وامكرهم وممن يلمون باللغة الروسية.
ولكن حالتي في تلك الليلة التي قضيتها في الجامع على ضفاف (فولغا) قد ألهمتني هذا القرار:
(سأقضي بقية عمري في الكهوف والمغارات معتزلاً الناس.. كفاني تدخلاً في امورهم. ولما كانت نهاية المطاف دخول القبر منفرداً وحيداً، فعليّ ان اختار الانفراد والعزلة من الآن، لأعوّد نفسي عليها!.).
نعم، هكذا قررت.. ولكن – وياللأسف – فان احبابي الكثيرين المخلصين في استانبول، والحياة الاجتماعية البهيجة البرّاقة فيها، ولاسيما ما لا طائل فيه من اقبال الناس والشهرة والصيت.. كل ذلك أنساني قراري ذلك لفترة قصيرة. فكأن ليلة الغربة تلك هي السواد المنوّر البصير لعين حياتي، وكأن النهار البهيج لحياة استانبول هي البياض غير البصير لعين حياتي. فلم تتمكن تلك العين من رؤية البعيد، بل غطت ثانية في نوم عميق، حتى فتحها الشيخ الكيلاني بكتابه (فتوح الغيب) بعد سنتين.
وهكذا ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. اعلموا ان ما في الشيخوخة من العجز والضعف ليسا الاّ وسيلتين لدرّ الرحمة الإلهية

لايوجد صوت