لقد ذكرنا في المكتوب الثاني من الكلمة الثالثة والثلاثين: ان الناس في زماننا هذا يبيعون احسانهم الى المحتاجين بثمن غالٍ، فمثلاً؛ يقدم لي رغيفاً من الخبز مقابل دعاء مستجاب، ظناً منهم اني رجل صالح. فإحساناً كهذا وبهذا الثمن الباهظ لا أريده. وقد بينت هذا سبباً من أسباب ردّ الهدايا. فالناس من غير طلاب النور الحقيقيين يظنونني ذا مقام عظيم، فيبدون علاقة قوية نحوي، واستعداداً للخدمة، ولكن يطلبون عوضها نتائج نورانية في الدنيا - كما هو لدى الأولياء - فيحسنون اليّ احساناً معنوياً بخدماتهم وعلاقاتهم!
ولما كنت عاجزاً عن ان أكون مالكاً لما يطلبونه من ثمن تجاه هذا النوع من الاحسانات المعنوية من أمثال هؤلاء، أظل خجلاً منهم، وهم بدورهم عندما يرون انى لست على شئ، يخيب ظنهم بي، وربما يفترون عن الخدمة.
وحيث ان الحرص في الأمور الأخروية والاستزادة منها مقبول -من جهة- إلاّ انه في مسلكنا، وفي خدمتنا، قد يكون لبعض العوارض سبباً للشكوى واليأس بدل الشكر، اذ قد يقع الحريص في خيبة الظن من عمله -لعدم رؤيته نتائجه- بل ربما يدع خدمة الايمان، لذا فنحن مكلفون في مسلكنا بالقناعة، وعدم الحرص على نتائج الخدمة وثمراتها على الرغم مما نبديه من حرص شديد وطلب المزيد في امور الخدمة ضمن الاخلاص، وذلك لأن القناعة في النتائج تورث دائماً الشكر والثبات والصلابة.
فمثلاً: ان ما نراه من حصيلة خدمتنا وجهودنا في ترسيخ الايمان وتحقيقه في قلوب الوف المؤمنين - حوالي ولاية اسثارطة - لكافٍ لخدمتنا هذه، بحيث لو ظهر من هو بمرتبة عشرة أقطاب من الأولياء الصوفية، واستطاع سوق ألفٍ من الناس الى مراتب الولاية، فان عمله هذا لا ينقص من أهمية عملنا وقيمته ولا من ثمراته شيئاً. لذا فان طلاب رسائل النور الحقيقيين واثقون كل الثقة ومطمئنون كل الاطمئنان بمثل هذه النتائج وحصيلة الاعمال هذه اذ ان القناعة القلبية لدى مريدي ذلك القطب العظيم يحققها ويضمنها المقام الرفيع لاستاذهم ومرشدهم، ويضمنها أحكامه في المسائل، الاّ ان رسائل النور تنشئ لدى طلابها درجة من القناعة أكثر بكثير مما عند مريدي ذلك القطب العظيم، بما فيها من حجج قاطعة تسري الى الآخرين فتنفعهم أيضاً، بينما تبقى قناعة اولئك المريدين خاصة بهم وحدهم. اذ ان قبول أقوال الاشخاص العظام بغير دليل لا يفيد اليقين والقطعية - في علم المنطق - بل ربما تكون قضية مقبولة يقتنع بها