يا نفسي! ويا دواعي الحس الشقية العمياء، المبتلاة بالأذواق!
لو استمتعتِ بالوف اصناف المتع، وتذوقت ألوف أنواع الأذواق الدنيوية، فهي الى زوال في هذا الوضع، بل يتحول ذلك الذوق ألماً بعينه.
وما دام تسعون بالمئة من الأحباب الذين مضوا وصاروا في طوايا الماضي كانهم يستدعونني - بل حقيقة - الى عالم البرزخ، اضطر الى الفرار من عشرة اصدقاء حاليين. ولا جرم ان حياة البرزخ المعنوية تفضل ألف مرة هذه الحياة، حياة الشيخوخة والانفراد.
وهكذا، أسكتت هاتان الحقيقتان اسكاتاً نهائياً تلك النفس الأمارة الثانية.فللّه الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر. اذ رضيت تلك النفس بالذوق الوارد من الروح والمنبعث من القلب.. وسكت الشيطان أيضاً. بل حتى المرض المادي المتوطن في عروقي قد خف كثيراً.
حاصل الكلام:
اذا متُ تزداد خدمة النور - للقرآن والايمان - وتتوضح وتتبين باخلاص أتم، بلا حسّاد ولا اتهامات، فضلاً عن النجاة من آلام التكلف الثقيلة المقيتة، والخلاص من أثقال العجب واضرار التصنع بدلاً من ذوق جزئي موقت لا أتحراه - في هذا الزمان - ولذة ناشئة من رؤية فتوحات النور بنظر الدنيا.
ثم يا نفسي لقد تجولت -انت والروح والقلب- في هذه السنة ولمرة واحدة في ارجاء الماضي، جولات حقيقية وخيالية لمشاهدة مَن تشتاقون اليه من المدن التي امضيتُ فيها حياتي السابقة الممتعة، ولقاء الأحبة الذين أنستُ بهم ردحاً من الزمن، والاخوان الذين حزنتِ على فراقهم حزناً أليماً. فلم تشاهدي في اوطاني المحبوبة تلك الاّ واحداً او اثنين من الأحبة، أما الباقون فقد ارتحلوا الى عالم البرزخ، فلقد تبدلت لوحات تلك الحياة التي كانت تطفح باللذة والمتعة الى لوحات أليمة تقطر الحزن والأسى، فلا تراد تلك البقاع الخالية من الأحباب ولا تطلب اذن!
لذا فقبل ان تطردنا هذه الحياة وهذه الدنيا قائلة لنا: اخرجوا عني. نقول بعزة كاملة: الوداع، وفي امانة الله وحفظه. نعم هكذا ينبغي ان ندع هذه الأذواق الفانية محتفظين بكرامتنا وعزتنا.
الف الف سلام ودعاء لجميع اخواننا، من اخيكم المريض والمسرور سروراً خالصاً.