يتعكر.. وان غرس ما هو ألذ من اللبن وأحلى منه وأطيب واثمن، في أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حد الفداء والإيثار.. ليحتاج حتماً إلى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مالا يكون قطعاً من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء، لذا فان تصرف هذه الصنعة الربانية، واحاطة هذا الفعل الإلهي، وتجليها في الحكمة نفسها، والدقة نفسها، والإعجاز نفسه، وفي آن واحد، وطراز واحد، في أفئدة تلك الآلاف المؤلفة من أضراب الوالدات وفي أثدائها، وعلى وجه الأرض كافة، يثبت الوحدة بداهة ويدل على الوحدانية.
الآية الثالثة:
﴿ومن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تَتَّخذونَ منهُ سكراً ورزقاً حسناً إنَّ في ذلكَ لآيةً لقومٍ يعقلون﴾(النحل: 67).
تلفت هذه الآية الكريمة النظر والانتباه إلى النخيل والأعناب، فتنبه الإنسان إلى: (أن في هاتين الثمرتين آية عظيمة لأولي الألباب، وحجة باهرة على التوحيد).
نعم، ان الثمرتين المذكورتين تعتبران غذاءً وقوتاً، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ كثير من المواد الغذائية اللذيذة، رغم ان شجرة كل منهما تنمو في تراب جامد، وتترعرع في ارض قاحلة. فكل منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الربانية. وكل منهما مصانع سكر وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائع ذات ميزان دقيق حساس وانتظام كامل، ومهارة حكيمة، وإتقان تام، بحيث ان الذي يملك مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر إلى القول: (ان الذي خلق هذه الأشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات قاطبة)؛ لأن ما نراه أمام أعيننا -مثلاً- من تدلي ما يقارب عشرين عنقوداً من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبة من تلك الحبات مغلفة بغلاف رقيق لطيف ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدة حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها.. نعم، ان خلق كل هذا وغيره في جميع العنب وامثاله -وهي لا تعد ولا تحصى- على وجه البسيطة كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وإيجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة بأعدادها الهائلة