ثم اننا نشاهد سواء في انفسنا او فيما حولنا، رحمة عامة، وحكمة شاملة، وعناية دائمة ناشرة نورها كالنهار، ونرى كذلك آثار ربوبية مهيبة وانوار عدالة بصيرة، وتجليات اجراءات جليلة عزيزة، بل نرى (حكمة) تقلد الشجرة حكماً بعدد ازهارها واثمارها، ونرى (رحمة) تقيم على كل إنسان احساناً وعطايا بعدد حواسه وقواه واجهزته. ونرى (عدالة) ذات عزة تهلك بسوط عذابها اقواما عصاة امثال قوم نوح وهود وصالح وقوم عاد وثمود وفرعون، وهي ذات عناية كذلك تحافظ على حقوق اصغر مخلوق واضعفه. فالآية الكريمة الآتية تبين بايجاز معجز عظمة تلك الربوبية الجليلة وهيبتها المطلقة:
﴿ومن آياته أن تقوم السماءُ والارض بأمره ثمّ إذا دَعاكم دَعوةً من الارضِ اذا أنتم تخرجون﴾(الروم: 24).
اذ تبين ان السموات والارض تمتثلان الامر الإلهي كالجنود المرابطين والراقدين في معسكرين. فكما انهم يهرعون الى أخذ مواقعهم وتسلم اسلحتهم بدعوة من القائد وبنفخة من بوق، كذلك السموات والارض كمعسكرين حالما يُنادى بالاموات الراقدين فيهما بصور اسرافيل عليه السلام، اذا بهم يخرجون من الاجداث سراعاً لابسين ثياب الجسد. بل نرى هذه العظمة والطاعة في كل ربيع اذ يُحشَر ما في معسكر الارض من جنود وينشَرون بنفخة من بوق مَلَك الرعد.. فبناء على التحقيقات السابقة، لابد ان تلك الرحمة والحكمة والعناية والعدالة والسلطنة السرمدية ستحقق ابعادها وغاياتها في دار اخرى، اي انها تقتضي الحشر بالضرورة، كما اثبتتها الكلمة العاشرة؛ اذ لاشك في مجئ الآخرة، بل ان عدم مجيئها محال في الف محال، حيث ان عدمها يعني: تبدل (الرحمة) التي هي في منتهى الجمال قسوة في منتهى البشاعة، ويعني: تحول كمال (الحكمة) الى نقص العبث القاصر وغاية الاسراف، ويعني: انقلاب (العناية) التي هي في منتهى الحسن واللطف الى اهانة في منتهى القبح والمرارة