الشرعية، وما قوبلت به من تكريم وحفاوة اكثر مما استحق بكثير.. كل ذلك ولد عندي حالة روحية فضلاً عن سكرة الشباب وغفلته، وعمقتْ فيّ ذلك النوم اكثر، حتى تصورت معها ان الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.
ففي هذا الوقت، ذهبت الى جامع بايزيد في استانبول، وذلك في شهر رمضان المبارك لأستمع للقرآن الكريم من الحفاظ المخلصين، فاستمعت من لسان اولئك الحفاظ ما اعلنه القرآن المعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الانسان وزواله، ووفاة ذوي الحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريمة:
﴿كُلُّ نَفس ذائِقةُ الموْت﴾(آل عمران:185).
نفذ هذا الاعلان الداوي صماخ أذني مخترقاً وممزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في اعماق اعماق قلبي.
خرجت من الجامع، رايت نفسي لبضعة ايام، كأن اعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بما بقي من آثار ذلك النوم المستقر فيّ منذ امد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البحر المضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت انظر الى المرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تخاطبني قائلة: انتبه!!!.
نعم ان الامور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت ان الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً باذواقه يقول لي: الوداع! وان الحياة الدنيا التي كنت ارتبط بحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت اتشبث بها، بل كنت مشتاقاً اليها وعاشقاً لها، رأيتها تقول لي: الوداع!! الوداع!! مشعرة اياي، بانني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها – أي الدنيا – هي الاخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل. وانفتح الى القلب من كلية هذه الآية الكريمة