الصفحات. بل بعين النظم يدبر، وبنفس التدبير يربّي، وفي عين التربية يتصرف ويخلق.
فكما لا يمكن ان تنور الشمسُ وجهَ البحر دون خدود الحبابات، وعيون القطرات، وأناسى الرشاشات(1). كذلك لايمكن مداخلة شئ من الاشياء في ذرة من حجيرة من عضو من جزئي من ساكني الارض، بغير القدرة التي تكوّر ليلها ونهارها. ومن صوَّر وانشأ ونظم دماغ الذباب وعين المكروب، لايترك افعالك غاربها على عنقها(2) سُدىً ومهملة بل يكتبها في إمام مبين، فيحاسبك عليها.
اعلم! ان ما يُتحدس ويُرى في كل مصنوع، بل في كل ذرة من التصرف المطلق، والقدرة المحيطة، والحكمة البصيرة - بجميع ما يتعلق بها وما ينظم معها في سلك - برهانٌ باهر وآية بينة؛ على ان صانع كل شئ واحد لا شريك له، وليس لاقتداره توزيعٌ ولا انقسام ولا تجزؤ اللازمة للانتهاء، اذ لو كان الممكن صانعاً، لكان في تصرفه توزيع وفي قوته انقسام وفي توجّه اقتداره واختياره تجزؤ، مع ان ما يتعلق من الثلاثة بالنحلة مثلا بحيثية لا يمكن - لو كان من الممكن المتجزي المتجاوز - ان لا يتجاوز. مع ان النحلة تتكشف عن اقتدار صانعها بوجهٍ لا يتعسر على ذلك الاقتدار خلق عوالم. فكيف ينحبس فيها ولا يتجاوز الى المجاور، فلا بد بالضرورة ان يكون الصانع واجبَ الوجود واحداً لا نهاية ولا حد ولا انقسام لقدرته التي تجري في ميزان قدره، وتكتب على مسطره..
اعلم! ان كون البعوضة والعنكبوت والبرغوث وامثالها اذكى بمراتب، واجزل فطرة، واتم صنعة من الفيل والجاموس والابل، مع قصر اعمار هؤلاء، وعدم نفعها ظاهراً، بخلاف اولئك.. برهان باهر وآية نيرة على ان الصانع لا كُلفةَ ولا معالجة ولا تعمُّل في خلقه
----------------
(1) أناسي: جمع انسان: وهو هنا انسان العين اي سوادها ومقلتها. اي: ان مُقل الحبيبات المائية المتطايرة من رشاش الماء والشلال.
(2) اصل المثل: حبلكِ على غاربكِ.