نعم، تُدرج احياناً صنعةٌ تقدّر بخمس ليرات في مادة لاتساوي خمسة قروش، فلا تؤخذ مادة الشىء بنظر الاعتبار، بل تعطى الاهمية للصنعة الموجودة عليها، كالصنعة الربانية العظيمة الموجودة في الجرم الصغير للذباب. واحياناً تكون صنعة زهيدة في مادة ثمينة، فالحكم عندئذٍ للمادة.
على غرار هذا المثال: فان مادة جسمانية قد تحمل من معاني الرحمة ومعاني النعمة الكثيرة بحيث تفوق مائة مرة في الاهمية على مادتها. حتى لكأن مادة ذلك الشىء تختفي وتنزوي امام عظم اهمية النعمة والرحمة، لذا فالحكم هنا يتوجه الى حيث النعمة.
وكما تخفي المنافع العظيمة للحديد وفوائده الكثيرة مادتها المادية، فان النعمة الموجودة في كل جزء من اجزاء هذه الحيوانات المباركة المذكورة كأنها قد قلبت مادتها الجسمانية الى نعمة، فأخذت صفاتها المعنوية بنظر الاعتبار دون مادتها الجسمانية. لذا عُبرت عنها في الآية الكريمة (وانزل.. وانزلنا).
نعم، ان عبارة (وانزل.. وانزلنا) كما تفيد النكات السابقة من حيث الحقيقة فانها تفيد ايضاً معنى بلاغياً مهماً إفادة معجزة. وذلك:
ان منح الحديد خواص مميزة، كوجودها في كل مكان، وسهولة تليينها كالعجين، نعمة إلهية، حيث يمكن الحصول عليه واستعماله في كل عمل رغم صلابته واختفائه ووجوده في الاعماق فطرة، لذا فان التعبير بـ﴿وأنزلنا الحديدَ﴾ انما يبين هذا المعنى أي كأن الحديد نعمة من النعم الفطرية السماوية التي يمكن الحصول عليها بيسر، وكأن مادة الحديد تنزل من مصنع علوي رفيع وتسلم بيد الانسان بسهولة.
وكذلك الحيوانات الضخمة كالبقر والجاموس والابل وغيرها من المخلوقات الجسيمة، مسخرة وذليلة ومطيعة ومنقادة حتى لصبي صغير، اذ تسلم قيادها له وتطيعه. لذا فالتعبير بـ﴿وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ﴾ يفيد ان هذه الحيوانات المباركة ليست حيوانات دنيوية تستوحش منها وتلحق بنا الضرر كالبعوض والحية والعقرب والذئب والسبع وما شابهها من الضوارى المفترسة، بل كأنها حيوانات آتية