ففي هذا الوقت، ذهبت إلى جامع بايزيد في استانبول، وذلك في شهر رمضان المبارك لأستمع للقرآن الكريم من الحفاظ المخلصين(3) فاستمعت من لسان أولئك الحفاظ ما أعلنه القرآن المعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الإنسان وزواله، ووفاة ذوي الحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريمة:
﴿كُلُّ نَفسِ ذائِقةُ الموْت﴾(آل عمران:185).
نفذ هذا الإعلان الداوي إلى صماخ أذني مخترقاً وممزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في أعماق أعماق قلبي.
خرجت من الجامع، رأيت نفسي لبضعة ايام، كأن إعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بما بقي من آثار ذلك النوم العميق المستقر فيّ منذ أمد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البحر المضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت انظر إلى المرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تخاطبني قائلة: انتبه!!!.
نعم ان الأمور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت ان الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً بأذواقه يقول لي: الوداع! وان الحياة الدنيا التي كنت ارتبط بحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت أتشبث بها، بل كنت مشتاقاً إليها وعاشقاً لها، رأيتها تقول لي: الوداع!! الوداع!! مشعرة إياي، بأنني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها -أي الدنيا- هي الأخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل. وانفتح إلى القلب من كلية هذه الآية الكريمة ﴿كُلُّ نَفسِ ذائِقةُ الموْت﴾ ومن شموليتها، ذلك المعنى الذي يتضمنها وهو:
ان البشرية قاطبة إنما هي كالنفس الواحدة، فلابد انها ستموت
--------------------
(3) وللاستاذ النورسي خواطر قيّمة في جامع بايزيد جديرة بالتذكير،لم ندرجها هنا خشية الإطالة، نذكر منها: بيانه الاعجاز في (ن) نعبد، لدى إثباته انه لايمكن ترجمة القرآن ترجمة حقيقية (المكتوبات/398-409) ومحاورة مع الشيطان، لدى إثباته ان القرآن الكريم كلام الله (المكتوبات/506-509).