السيرة الذاتية | الباب الثاني | 161
(150-183)

فترة الهرم والشيخوخة لما تنعم به من مذاقات ولذائذ في بضع سنين.
ولما كان عهد الشباب لا يخلو من الضرر عند اغلب الناس، فعلينا إذن نحن الشيوخ ان نشكر الله شكراً كثيراً على ما نجّانا من مهالك الشباب وأضراره. هذا وان لذات الشباب زائلة لا محالة، كما تزول جميع الأشياء. فلئن صُرف عهد الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة أبدية.
ثم نظرت إلى الدنيا التي عشقها اكثر الناس، وابتلوا بها. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:
الأولى: هي الدنيا المتوجهة إلى الأسماء الإلهية الحسنى، فهي مرآة لها.
الثانية: هي الدنيا المتوجهة نحو الآخرة، فهي مزرعتها.
الثالثة:هي الدنيا المتوجهة إلى أرباب الدنيا واهل الضلالة فهي لعبة أهل الغفلة ولهوهم.
ورأيت كذلك ان لكل أحد في هذه الدنيا دنيا عظيمة خاصة به، فهناك إذن دنىً متداخلة بعدد البشر. غير ان دنيا كل شخص قائمة على حياته الشخصية، فمتى ما ينهار جسم شخص فإن دنياه تتهدم وقيامته تقوم. وحيث ان الغافلين لا يدركون انهدام دنياهم الخاصة بهذه السرعة الخاطفة؛ فهم يفتنون بها، ويظنونها كالدنيا العامة المستقرة من حولهم.
فتأملت قائلاً:
لاشك أن لي ايضاً دنيا خاصة - كدنيا غيري - تتهدم بسرعة - فما فائدة هذه الدنيا الخاصة إذن في عمري القصير جداً؟!.. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هذه الدنيا - بالنسبة لي ولغيري - ما هي الاّ متجر مؤقت، ودار ضيافة تملأ كل يوم وتخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارئ المصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بحكمة. وكل ربيع فيها رسالة مرصعة مذهّبة، وكل صيف فيها قصيدة منظومة رائعة، وهي مرايا تتجدد مظهرة تجليات الأسماء الحسنى للصانع الجليل، وهي مزرعة لغراس الآخرة وحديقتها، وهي مزهرة الرحمة الإلهية، وهي مصنع موقت لتجهيز اللوحات

لايوجد صوت