السيرة الذاتية | الباب الثاني | 164
(150-183)

لك هم الآن في استانبول، وليس لك هنا الاّ واحد او اثنان، وهم بدورهم سيرحلون إلى هناك. فالذهاب إلى استانبول بالنسبة لك إذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت إليها، ألم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نجوتَ من بلد الأعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت استانبول الزاهية الجميلة، كأنها جنة الدنيا!. وهكذا الأمر حيث ان تسعاً وتسعين من مائة شخص ممن تحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتحلوا إلى المقبرة. تلك التي تبدو لك موحشة مدهشة، ولم يظل منهم في هذه الدنيا الاّ واحد او اثنان، وهم في طريقهم إليها كذلك. فوفاتك في الدنيا إذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وانما هي وصال ولقاء مع أولئك الأحبة الأعزاء.
نعم ان أولئك - أي الأرواح الباقية - قد تركوا مأواهم وعشهم المندرس تحت الأرض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالم البرزخ.
وهكذا ذكّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الحقيقة اثباتاً قاطعاً كلٌ من القرآن الكريم، والإيمان، بحيث مَن لم يفقد قلبه وروحه، او لم تغرقه الضلالة لابد ان يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيّن هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتحد وبأشكال آلائه التي لا تُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الأشياء الصغيرة الجزئية جداً -كالبذور مثلاً- ذلك الصانع الكريم الرحيم، لابد -بل بالبداهة- لا يُفني هذا الإنسان الذي هو أكمل مخلوقاته وأكرمها وأجمعها وأهمّها وأحبها إليه، ولا يمحوه بالفناء والإعدام النهائي، بلا رحمة وبلا عاقبة -كما يبدو ظاهراً- ولا يضيّعه ابداً.. بل يضع الخالق الرحيم ذلك المخلوق المحبوب تحت التراب الذي هو باب الرحمة موقتاً، كي يعطي ثماره في حياة أخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الأرض.
وبعد ان تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك المقبرة عندي مؤنسة اكثر من استانبول نفسها، واصبحت الخلوة والعزلة عندي اكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة، مما حدا بي ان أجد مكاناً للعزلة في (صارى ير) على البسفور. واصبح الشيخ الگيلاني رضي الله عنه استاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه (فتوح الغيب)، وصار الإمام الرباني رضي الله

لايوجد صوت