السيرة الذاتية | الفصل الثاني | 198
(184-199)

والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلاً من ان تسلّيني .
ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضاً من ان يؤنسني.
ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد ان امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التأريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.
فلما يئست من هذه الجهة ايضاً، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت ان على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً إلى جذور شجرة عمري، فرأيت ان التراب الذي هناك ما هو الاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الاقدام، فأضافا إلى دائي داء من دون ان يمنحاني دواءً.
ثم حوّلتُ نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت ان هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من ان تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.
ولما لم أجد في تلك الجهة خيراً ولا أملاً، ولّيت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت ان القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يحدق بي، وخلفه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا املك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الإرادة الجزئية. فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري. ولكن لما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على إيجاد شئ، وليس في طوقه الاّ الكسب فحسب، حيث لا يستطيع ان يمضي إلى الزمان الماضي ويذبّ عني الأحزان ويسكتها، ولا يمكنه ان ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عنّي الأهوال والمخاوف الواردة منه، أيقنت الاّ جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.
وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتوالى عليّ منها صنوف

لايوجد صوت